كان من الممكن أن نستمر فى تتابع الحكاية فى ترتيبها الزمنى، لكن لا بد للعودة للحكاية عن البحار «ألبرتو ألفاريز رودريجو» لنتابع ما حدث فى افتتاح جسر «بونتى سالازار» فى ميناء «ليشبونة»، فقد اجتمعت مجموعة من البحارة ليتدارسوا معى كيفية اختفاء «ألبرتو» مدة الثلاثة أيام التى أعقبت عودتى إلى السفينة من احتفالات جسر «بونتى سالازار»، ولما كنت أنا نفسى لا أذكر من تفاصيل تلك الليلة غير ما حدث فى بار «دوس جيميوس»، ورقصة «فاندانجو»، وموسيقى «الفادو»، و«الفولك»، فقد حكيتها لهم بالتفصيل، وحكيت لهم كذلك لحظة خروجنا من الجمرك، لكن العجيب فى الأمر أنى كنت أذكر الهتافات التى كنت قد هتفت بها مع البرتغاليين فى الاحتفالات التى كانت تدور على جسر «بونتى سالازار» والشوارع المحيطة به، لكنى لم أجد فى نفسى القدرة أو الشجاعة على أن أحكى لهم عنها؛ فلو كنت قد حكيت لهم عنها، لكان من المحتم على أن أحكى لهم عن الفتاة البيضاء ذات العيون الزرقاء، التى ربما يكون طعم قبلتها على شفتى لا يزال، سرعان ما جاء المهندس الأول، وتحدث معى بلهجة مهذبة ودودة، ربما ليدارى نيته فى انتزاع أية اعترافات منى، لكنى سرعان ما اكتشفت خطأ ظنونى، وتأكدت أنه كان يريد منى اعترافا صريحا وواضحا بمعرفتى بالمكان الذى كان يختفى فيه «ألبرتو»، ولما كنت لا أعرف بالطبع ذلك المكان، فقد قررت ألا أوقع نفسى فى المشاكل وأن أعترف للضابط الأول بالمائة «سكودو» التى دسها «ألبرتو» فى جيبى، وربما يكون هذا هو ما دفع المهندس الأول لأن يقول للبحارة المتجمعين حولى إنه مقتنع تماما بكل ما قلته، وأنى لا أعرف مكان اختفاء «ألبرتو» لأنى لو كنت أعرف مكانه ما صرحت لهم بحكاية المائة «سكودو»، فى هذه اللحظات تنبهت إلى شهامة صديقى «ألبرتو»، وأيقنت أنه كان ينوى الاختفاء ويدبر له، ولكنه خاف على، وحتى لا يتركنى وحيدا بدون معيل، فكرت أنه ربما يكون قد ذهب إلى بيتهم ليرى أمه وأخته التى ربما تكون قد أنجبت ابنها الأول، ولم أعرف سبب الحزن الشديد الذى تملكنى، لدرجة أنى غالبت رغبة ملحة فى البكاء، تختلط بإحساس عميق بالوحدة وبغربة لم أحسسها قبل ذلك، وفطنت إلى أن وجود «ألبرتو» إلى جانبى هو الذى أخرج إحساسى بالغربة، وقد فجّره الآن اختفاءه بهذه الصورة المفاجئة، ضغطت كل هذه المشاعر والأحاسيس بقوة على جوانحى؛ فبكيت، تخيلت أن أحدا ما من الممكن أن يرانى فى لحظة ضعفى، وأنا على هذه الحال من البكاء؛ فتماسكت بقوة ومسحت دموعى، وفى هذه اللحظة حدثت المعجزة: كان «ألبرتو» بشحمه ولحمه يقف فى مواجهتى وهو يكاد يلامسنى متفحصا للحظات استوعبت فيها وجوده، لم يمهلنى هو لحظة واحدة لأعبر له فيها عن فرحى بعودته، فقال ساخرا فى مودة ومتسائلا عن السبب الذى يكسو عينى باللون الأحمر الداكن مثل لون نبيذ «بورتو»، شعرت بمودة حقيقية تجاهه، ولا أعرف إذا كانت مشاعرى هذه هى السبب الذى جعلنى أندفع فجأة فى بكاء حار، أم أن هناك سببا آخر لم أكن أعرفه، يبدو أن «ألبرتو» قد تفاوض مع المهندس الأول فى مسألة غيابه الأيام الثلاثة فى هدوء ودون خسائر، لأنى عندما سألته ونحن نأوى إلى فراشنا المتجاورين عن ذلك، قال لى إن المسألة قد انتهت، وأنه سوف تصادفنى مثل هذه المشاكل الصغيرة، طالما كنت بحارا، وبدأت أساريره تنفرج وتظهر ابتسامته الخبيثة الودودة على وجهه الطيب، وهو يحكى لى عن «مونتانيا»، وهى المرأة السمينة التى تعرف عليها وسط الاحتفالات، ووجد نفسه فى أحضانها فى بيتها، وضحك عندما قال: إن «مونتانيا» تعنى «الجبل» لكنها كانت شهية، وللمذكرات بقية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة