أزمة الثقافة فى مصر هى أن هناك فريقا كبيرا يريد أن يسجنها بين دفتى كتاب أو بين جدران قاعات الدرس أو المؤتمرات، وقد اتبعنا هذه السياسة سنينا ثم اندهشنا حينما رأينا آثارها على حياتنا دماء ودمارا وتخلفا وعشوائية، وللأسف فإننا لم نبدأ حتى الآن فى صياغة مشروع ثقافى وطنى يناسب تلك اللحظة التاريخية الفارقة ويهيئ جيلا جديدا متشبعا بالروح الثقافية المصرية، متمسكا بتراثه وقيمه وإنجازات وطنه الكبير.
أجدد هذا الحديث الآن بعد أن طرحت مبادرة «مشروع كشك الهوية» أو «بيت الهوية» التى استجابت لها وزارة الصناعة ووعدت بدراستها وتنفيذها، فقد اندهش البعض من طرحى لهذه الفكرة، وتأكيدى على أنها «فكرة ثقافية» فى المقام الأول، لأنهم يعتقدون وفقا لوعيهم الراكد أن الثقافة مسرح وكتاب وموسيقى وسينما وفن تشكيلى فحسب، ولهذا أنتهز الفرصة لأعيد نشر تعريفى للثقافة مرة أخرى، حتى يستوى الأمر ويجد كل «مندهش» سببا لزوال الاندهاش.
الثقافة من وجهة نظرى هى علم بناء الإنسان، ولا تحسب أننى أبالغ إذا قلت، إن مشكلات الدولة المصرية لن تحل إلا بالثقافة، وهى الكفيلة وحدها بالقضاء على الإرهاب وتنمية السياحة وتجييش الشعوب من أجل الأهداف السامية، وزيادة النمو الاقتصادى، وكما يقول عالم الاجتماع الشهير ماثيو أرنولد، فإن الثقافة هى دراسة الكمال والتى من شأنها أن تقود إلى كمال متناسق بتطويرها لكل جوانب إنسانيتنا ثم إلى كمال عام بتطويرها لكل أجزاء المجتمع.
وفقا لهذا التعريف فإننى لا أرى طائلا يذكر من عمل استراتيجية ثقافية بعيدة المدى، دون أن نعيد ترسيم حدود الثقافة فى مصر، بحيث تشمل كل مناحى الحياة وجميع المنتوجات الثقافية للمصريين كشعب، وليس للمثقفين كـ«نخب» دون أن يكون فى هذا تعارض مع ذاك.
وليس هناك من مفر أيضاً من إعادة ترسيم حدود الثقافة، لتصبح وزارة الثقافة «وزارة استراتيجية» ترصد ثقافات الشعب، وتدرس ميوله واتجاهاته وآليات تلقيه، وتعمل على الارتقاء به، وبالطبع مهمة كهذه تتطلب عمل العديد من «المراجعات الثقافية» لندرس بعين النقد الموضوعى تلك الكتابات المؤسسة التى هيمنت على الجماعة الثقافية على مدى عقود عديدة، إذ ليس من المعقول أن نجلد الشعب كل يوم ونتهمه بالقصور والتدنى ونعيب عليه تدنى مستواه الحضارى، دون أن نشك ولو للحظة فى أن «العيب فينا».
الخلاصة لم تستطع الدولة المصرية أن تنشئ عقدا اجتماعيا ثقافيا جديدا، وعليه فإننى لا أستبعد مطلقا أن نتدهور كثيراً عما كنا، وأن نظل فى تلك الدائرة المغلقة الخاوية، ومهمة الدولة أن تعيد ترسيم حدود «الثقافة»، لتشمل كل مناحى الحياة، بالشكل الذى يجعل المواطن المصرى مثقفا، عن طريق محاصرته بالجمال والكمال من كل حدب وصوب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة