رغم القوة التاريخية والوجود الثقيل للدولة المصرية ومؤسساتها عبر التاريخ، فإن هذا الوجود اتسم فى السنوات الأخيرة بطابع مراوغ شديد الغرابة، فكثير من الشوارع بلا إشارات للمرور، كما يغيب عنها أى وجود مادى أو رمزى للدولة، بينما تجد هناك حضوراً مكثفاً لرجال الشرطة والمرور فى شوارع وتقاطعات أخرى، بحسب الأهمية الأمنية أو السياسية لكل شارع أو حى، وفى نفس الشارع تجد فى بعض أجزائه تسامحاً فى تطبيق قوانين المرور، خاصة أماكن الانتظار، والتزاماً وتشددا فى أجزاء أخرى، أكثر من ذلك فتطبيق قوانين المرور يختلف بحسب أشهر السنة، وبحسب بعض المناسبات!
إشارات المرور، فهى لا تعمل فى أغلب التقاطعات، بل ومتوقفة فى كثير من الشوارع منذ شهور، وحتى إن عملت فإنها بلا معنى أو دلالة أو حضور، فالإشارة عندما تكون حمراء، مما يعنى فى كل العالم توقف عبور السيارات، تجد السيارات فى المحروسة تعبر، بل وتجد ضابطا أو شرطى المرور يؤشر لك بالعبور، بينما الإشارة حمراء. باختصار تلغى آلية وحيادية إشارات المرور، وتدار حركة المركبات والمشاه فى التقاطعات والإشارات المهمة فى القاهرة بشكل يدوى، وباستخدام إشارة اليد لشرطى المرور أو الصافرة أو الاثنين معاً، وفى مشهد غير معروف فى عواصم العالم يقف أحياناً ضابط كبير برتبة لواء فى الشارع، وإلى جانبه عدد من الضباط الأقل رتبة لتنظيم المرور، وقد يعلو صراخ هؤلاء إلى جندى المرور فى الطرف الثانى من الميدان لكى يفتح الإشارة أو يغلقها، وبالطبع يقوم الجندى بتنفيذ الأمر يدوياً، أى يؤشر إلى السيارات، لكن سائقيها قد لا يحترمون الجندى لضآلة رتبته أو لكونه مجرد مجند، وليس جندى مرور عاملا ممن يحق له تسجيل المخالفات المرورية، وبالتالى يضطر المجند المسكين إلى الوقوف بجسمه الضئيل أحيانا أمام تدفق السيارات فى الطريق حتى يوقفها.
كان الشارع المصرى قبل ثلاثين عاماً يتسم بقدر مرضٍ من الانضباط والحضور القوى والمؤثر لسلطة الدولة والقانون، فضلاً عن الالتزام الطوعى للمواطنين بالإذعان لسلطة قانون المرور وعلاماته ورموزه، لكن هذه الأوضاع انقلبت رأساً على عقب، وتبدلت الأحوال إلى النقيض فى معظم شوارع القاهرة، وأعتقد أن اللحظة التى شهدت النهاية الرمزية المادية والمعنوية لاحترام إشارة المرور والإذعان لها، كانت هى بداية ضياع سلطة القانون وضعف الدولة، ومن ثم حضورها المراوغ فى كل المجالات، بما فيها تنظيم حركة المرور، فقد تنازلت الدولة والمجتمع عن الآلية المنضبطة والمحايدة للقانون، ولإشارة المرور بكل رمزيتها التى تنتمى إلى دولة المؤسسات والدولة الحديثة، وجرى الاعتماد على آليات تنتمى إلى مجتمع ما قبل الدولة الحديثة لتنظيم حياة الناس والمجتمع، فتنظيم المرور يتم بشكل يدوى غير محايد، ومن ثم اتسعت دائرة الأمور النسبية وسادت ثقافة الفهلوة.
تراجع الأداء إلى ما قبل المجتمع الحديث، وسادت الصافرة والإشارة اليدوية بدلاً من الإشارات الضوئية والعلامات المرورية الثابتة والمتغيرة، وسادت ثقافة الفهلوة المرورية فى سلوك قادة المركبات بأنواعها والمارة ورجال المرور. ولا شك أن ثقافة الفهلوة أصبحت أحد مكونات ثقافة الحياة والناس فى مصر، وعلى كل المستويات، وهى ثقافة تعادى النظام، وترفض القانون وتتحايل عليه، وتتسم بطابع برجماتى قصير النظر يؤدى عادة إلى وقوع خسائر هائلة وكوراث بالجملة.
ولا شك أن ثقافة الفهلوة قادت الفكر والأداء المرورى إلى عدم التصدى لمشكلة ضياع معنى الإشارات المرورية الضوئية، والالتفاف حولها توفيراً للوقت والجهد، ومن ثم اخترع شخص ما «نظام اليوتيرن»!! الذى ألغى كثيراً من إشارات المرور عند التقاطعات، واعتمد نظام «اليوتيرن»، الذى أثبتت التجربة بعد عدة سنوات فشله وتحوله إلى أحد أسباب الأزمة المرورية الدائمة فى القاهرة، فهذا النظام لا يتناسب مع مدينة عملاقة ومزدحمة مثل القاهرة، ولكنها الفهلوة التى أوجدته وسمحت باستمراره، ربما للتخفيف عن كاهل رجال المرور، وربما لأن هذا النظام الذى يفتقر المعيارية والوضوح يتماشى مع الثقافة السياسية السائدة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
كله ماشى بالفهلوه - لا قانون ولا انضباط ولا اداره
بدون