ولماذا لا تكون نفسك؟ لماذا عليك أن تتكلف الدعابة أو تتصنع الطرفة؟ لماذا تعتبر أن الظرف فريضة وخفة الدم واجبة حتى على من لم يُرزقهما؟ لماذا تظن أن عدم قدرتك على إضحاك الناس تعيبك، أو تعتقد أنه لابد من الإفراط فى المزاح لكى تكون محبوبًا؟ لماذا تحرص على تكرار ألفاظ شبابية يرددها غيرك دون أن تدرى لها معنى أو تعتاد لها نطقًا؟ لماذا تحسب أن الظرفاء وحدهم هم نجوم المجتمع ومتصدرو المجالس؟ من الذى أنبأك أن البساطة وترك التكلف تساوى الاستظراف واستخفاف الدم والتصنع؟ لماذا تصر على ارتداء ثوب غير ثوبك؟!.. هذه الأسئلة أوجهها لأولئك المهزومين اجتماعيًا، المنسحقين أمام أوهامهم التى تصور لهم الحياة بشكل واحد و«اصطنبة» واحدة، أولئك الذين يظنون أن السعادة تكمن فى تصدر المجالس أو الشهرة، أو إشارة الناس إليهم بالبنان، واتجاه الأنظار لهم بالانبهار والامتنان، هذا الظن يدفعهم لتلك السلوكيات التى أشرت لها فى الأسئلة التى صدرت بها المقال، والتى تلخص هذه الحالة التى يعانون منها، بل إن شئت فقل هذا العذاب الذى يعيشون فيه! الشعور دومًا بأن ثمة شيئًا ناقصًا.. أن هناك طرفة لابد من قولها، أو مزحة لابد من لفت الأنظار بها، والإحساس المستمر بانعدام الثقة، والرغبة الجامحة فى التقليد والتشبه بمن يعتبرهم المسكين نجوم المجتمع وزينة المجالس، إنه لعذاب حقيقى.. عذاب التطلع لشىء غير ممكن والرغبة فى المستحيل.
لقد خلقنا الله مختلفين، وأعطى لكل منا خصائص مغايرة للآخرين، ووزع الطباع والمواهب، وجعلها كالرزق مقدورة ومقسومة، وجعل لكل مرحلة عمرية وجيل خصائصه المميزة كذلك.. صحيح هناك ما هو كسبى، وهناك ما يمكن المران عليه وتعلمه، ويستحسن ذلك كما فى الحديث الصحيح: «إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»، لكن بلا شك ليست كل الخصائص البشرية هكذا.
هناك مواهب يصعب اكتسابها، وخصائص لايمكن تعلمها أو المران عليها، وليس الإنسان أصلًا مطالبًا بذلك، الإنسان مطالب كما فى الحديث السابق وغيره بمكارم الأخلاق، وحسن المعشر، ولين الجانب، وإجادة التعامل وفق القيم والمبادئ السامية، لكن كل ذلك فى إطار الشخصية المستقلة وما حباها الله به، وليس بالانهزام لنماذج معينة والرغبة المستمرة فى محاكاتها وارتداء أثوابها، لا الظُرف فريضة، ولا خفة الدم واجبة، ولا فتوة الشباب وعنفوانه ينبغى دوامهما، ولا عدم قدرتك على المزاح والإضحاك ولفت الانتباه تعيبك. صدقنى يا عزيزى ما دمت على خير وطاعة وخلق حسن فلا تحتاج إلا أن تكون نفسك، وأن تثق بتلك النفس، وتتحدث بلغتها التى لا تتكلفها ولا تقعرها والتى تناسب شخصيتك وسنك، أن ترتدى ثوبك الذى يليق بك، أما أثواب غيرك التى تصر على التسربل بها والتخفى وراء اتساعها فلن تزيد منظرك إلا غرابة، ولن تعطيك إلا مظهرًا عجبًا.. ألطف عباراتك هى ما خرجت من سجيتك، وأفضل كلامك هو ما وافق طبيعتك، وأجمل بسماتك هى ما نبت على شفتيك بعد أن مرّت بقلبك، وأنسب الأثواب لك هو ثوبك.