مراسلة شايلة طفلها أثناء عملها اليسير لبضع دقائق، قامت الدنيا ولم تقعد، للدرجة التى انتفضت فيه الدولة، وقررت تكريمها، واعتبارها سيدة مثالية وعنوان عريض للمرأة العاملة، المضحية، وهنا الأمر لا غضاضة، إذا كان يسير فى اتجاه الاستثناء، وغير مكرر.
لكن سيدة، يتكالب على ظهرها مآسى الدهر فينثنى عمودها الفقرى، ويربط الفقر بحزام قوى على خصرها ويمزق أمعاءها، وتقف تبيع خضارا، حاملة أطفالها، الواحد تلو الآخر، فإن الأمر يصير عاديا ولا يثير أو يلفت نظر أحد، أو يهتم بها حتى رئيس الحى الذى نعيش فيه، هنا بيت الداء، والتفرقة المشينة.
فلاحة تساعد زوجها فى الحقل تحت أشعة الشمس الحارقة، وتحمل طفلها فوق كتفها، أمر عادى، ولا كأنها أم، ولا كأنها تقدم أى تضحية، ولا تلقى أى اهتمام حتى شيخ الخفر بالقرية.
هذه هى الحالة يا سيدى فى مصر، البعيد عن العين، بعيد عن القلب والاهتمام، هؤلاء الذين تسلط عليهم الأضواء، ينالون الاهتمام، لكن الغالبية الكاسحة من الذين يقاتلون يوميا للحصول على الفتات تبقيهم على قيد الحياة، لا يسأل فيهم أحد، وبعيدين عن الصورة، هم قابعون فى هامش شعور الدولة.
وتتصاعد وتيرة أحداث مسلسل العجب فى مصر، عندما أهان وزير فى حكومة المهندس إبراهيم محلب، يحمل حقيبة وزارة الثقافة، المعنية بحمل مشاعل التنوير، سيدة عاملة فى متحف محمود سعيد بالإسكندرية تدعى عزة عبدالمنعم، عندما تهكم على وزنها الزائد، وبدلا من أن يستمع لشكواها، ويهتم بتقييم أدائها فى العمل، لم يجد إلا السخرية والتسخيف والاستهزاء بسيدة تؤدى عملها بكل قوة وفاعلية، ويطلب منها بكل سماجة، أن تصعد السلم وتهبط عشرات المرات، أو تجرى حول حديقة المتحف لتخس.
هل لو هذه السيدة زائدة الوزن كانت تعمل مراسلة لإحدى القنوات الفضائية، كان يستطيع وزير الثقافة لا فوض فوه أن يسخر منها؟ بالطبع لا، ماذا وإلا كانت الدنيا قامت ولم تقعد، لكن الوزير المستنير المثقف الواعى والمسؤول عن تشكيل وعى وثقافة المصريين، ومجابهة الأفكار الرجعية والظلامية، يستطيع أن يُسخف من موظفة عاملة تجابه الحياة متحملة وزنها الزائد، وعناء العمل، وتجتهد بقوة.
هنا يظهر الفارق بين مذيعة تحمل طفلها وهى تؤدى عملها، فالدولة تهتم بها، وتكرمها، وبين موظفة تقهر الصعاب، وتتحمل مشقة وزنها الزائد، فالحكومة تستهزئ بها، وتهينها، على لسان وزير ثقافتها الجديد، محاولا أن يظهر قدرا من «خفة الدم المغموسة بالاستظراف»، دون أن يحترم هيبة منصبه كوزير، وياليت وزارة عادية، ولكن وزارة ثقافة، معنية بالدرجة الأولى باستنارة العقول.
ما بين بائعة الخضار التى تحمل أطفالها، والفلاحة فى الحقل التى تعمل وأطفالها فوق أكتافها، وموظفة زائدة الوزن تتعرض لمهانة وزير الثقافة، وبين مراسلة تليفزيونية تعمل وهى تحمل طفلها، يتضح الفارق الشاسع فى عملية التقييم، والاهتمام، والرعاية بين المشاهير، والقابعون من الغلابة فى الظل.
ولكِ الله يا مصر.!