فى عام 1978 بينما أنا بعيد عن الوطن مثل كل الشباب ذلك الوقت للعمل، وجدت خبر وفاة الدكتور عثمان أمين، أستاذ الفلسفة الحديثة فى جامعة القاهرة وزائر كلية الآداب بالإسكندرية منذ الستينيات، ومن ثم أستاذنا فى بداية السبعينيات. تداعت علىّ ذكريات حلوة مع الرجل، ذكرت بعضها هنا مرة فى مقال عن أساتذتى الذين لا أنساهم. ذلك المفكر الكبير الذى كان حرا يؤمن بحرية الإنسان. يعادى مذاهب فلسفية مثل الوضعية المنطقية، لما يراه فيها من براجماتية ونفعية والوجودية بما يراه فيها من ضعف بشرى يشطح ليكون لنفسه مذهبا هو «الجوانية»، أى التأمل وليس الوقوف عند ظاهر النصوص، ولا يضايقه نقد الآخرين الذين اعتبروها طريقة تفكير وليس مذهبا قائما بذاته. والأهم لايضايقه أن نكون نحن الطلبة اليساريين ذلك الوقت أهم تلامذته، بل يمضى معنا نصف الليل بعد انتهاء محاضرته فى الساعة السابعة مساء. على رأس ما تعلمناه منه هو الحرية التى كان يراها قد ضاعت فى مصر منذ ثورة 1952، ويتأكد ضياعها مع إعلان السادات نفسه كرئيس مؤمن ومصر إسلامية كأننا كنا كفارا وتشجيع الدولة للأفكار الوهابية. وهكذا كتبت مقالى السابق منذ أسابيع أشير من بعيد إلى تردى حال التعليم العالى، ضاربا المثل على عظمة التعليم زمان باسأتذة كانوا يشجعوننا على البحث أكثر مما يشجعوننا على قراءة كتبهم. ثم قرأت أخيرا خبر حرق الكتب فى مديرية تعليم الجيزة. فعلها المتعلمون جاهلين أن هذا فعل فاشى فى التاريخ. فعل لايدعو إلى المباهاة بالتصوير والنشر أبدا. لا يختلف من فعل هذا باسم التقدم وتنقية الكتب عن الإرهاب الفكرى وعن داعش والإرهابيين. ببساطة كان يمكن أن يحمل الكتب بعيدا عن المدرسة ويمضى، لكن لابد من التباهى بالعبث. يختلفون الآن فيما نشرته الصحف من عناوين الكتب وما حرق فعلا، لكن المهم الفعل نفسه وحماقته. والأهم أننى تذكرت الآن أستاذى العظيم. أحسست به يتململ فى تربته. لقد أحرقوا كتابه عن جمال الدين الأفغانى ولم يقرأوه ولا أظنهم إذا قرأوه سيفهمونه. قالوا إنه يهاجم جمال الدين الأفغانى وهو الذى يعتبره أحد الأربعة الكبار رواد الفكر الإسلامى مع محمد عبده والكواكبى ومحمد إقبال، لكن لا يعنى ذلك عدم مناقشة أفكاره. هكذا بدت ثقافة من قرر ذلك غائبة. لا يعرفون أن عثمان أمين الذى كتب عن محمد عبده وديكارت وترجم لديكارت أيضا أهم الكتب لا يرى ولاء إلا للعقل والحرية. لن أعلق على أى كتاب آخر، وإن كنت أعرف أن بينها كتبا تافهة حقا مثل كتب أنورالجندى الذى حمل لواء الهجوم على العقل والتفكير فى السبعينيات وجعل من طه حسين كافرا خارجا عن الملة، لكن التسوية بين أنور الجندى وعثمان أمين جهل كبير وفعل الحرق لكتب الاثنين بربرية بلهاء. الحديث طويل، لكنى أريد أن أعتذر للرجل العظيم رافع لواء العقل والحرية عثمان أمين. سلام عليك يا أستاذى، فطعم الحوار الرائع بيننا كل مساء، ونحن حولك لايزال يجرى فى دمى بالفرح. لا تلمنا، صرنا غرباء فى أوطاننا منذ أن نبهتنا لذلك، لا تلمنا يحاصرنا الجهل فى الأرض والفضاء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة