فى هذه اللحظات المشحونة بالعواطف، كان على «ألبيرتو» أن يطمئن عائلته بالكثير عن أحواله، بدت اللهفة وقليل من الجزع على عائلة «رودريجو»، فهو لا يستطيع الآن أن يحكى لهم كل شىء عن حياته فوق ظهر السفن ولا فى البارات والموانئ، ولا عن النساء البيضاوات البدينات والسمراوات النحيفات اللواتى قابلهن وشرب معهن النبيذ، لكنه يستطيع فقط أن يطمئنهم بأن الإجمالى من أحواله كلها أو فى معظمها جيدة، قال لجدته: لا تحملقى فى هكذا يا «جوديت» فردت العجوز: أنا لا أحملق يا بن «يائيل»، وإياك أن تقول لى إنك بن «ألفاريز»، هذا بالطبع ما لم تكن نسيت، فإن أمك اليهودية هى من صلب يهود أقحاح. بهذه الكلمات- التى بدت كما لو كانت عدائية - واجهت الجدة «جوديت» حفيدها «ألبيرتو» الذى لم يبد عليه أى تذمر من طريقة كلام جدته، بل على العكس، فقد بدا مبتهجا وودودا، وهو يؤكد لها على أننى صديقه وزميله: «هذا هو بارا». كان يقصدنى طبعا، فقد كان ينطق اسمى هكذا، لكن «جوديت» أرادت سماع اسمى كما أنطقه أنا، فطلب منى «ألبرتو» أن أقول لها اسمى واسم أمى على أن أنطق الاسمين بالعربية: ابتسمت وقلت لها اسمى وأن أمى اسمها «روحية»، هزت الجدة العجوز رأسها وقالت باسمة: «مسلمانو؟ حسنا، إيستى إيهام بوم أميجو». ضحك «ألبرتو» وقال إن معنى كلام «جوديت» أنى صديق جيد، وأدار وجهه تجاهها وأكمل حديثه معها وهو يؤكد لها على أننى بالفعل صديق جيد، ولذلك فقد أحضرنى إلى «كانيكال» لأتعرف على عائلته، وبالرغم من أننى مسلم، فإننى طيب وأشرب النبيذ الأبيض والأحمر، وإن كنت ما زلت بحارا متدربا.
فى البار الوحيد الموجود فى البلدة الذى كان يحمل اسم البلدة نفسه، شرح لى «ألبرتو» كل ما حدث فى لقائى الأول مع عائلته، لا سيما وأن الحديث كان يدور بينهم باللغة البرتغالية، فتنبهت إلى أننى كنت أفهم المعنى العام للكلمات، وأفهمنى بأننا سوف نشرب النبيذ بدون أن نتفحص وجوه الحاضرين بطريقة مباشرة قد تنفرهم من وجودنا بينهم، ولا أستطيع أن أنكر أن صدرى قد انقبض وشعرت بمخاوف لم أكن أدرى سببا مباشرا لها، بدا لى الجميع أكبر منا سنا وهم يجلسون حول المناضد الخشبية الكالحة، كما لو كانت جزءا من المبنى نفسه كما الجدران والأرضية، ولاحظت أنهم جميعا بلا استثناء يعرفون «ألبرتو»، كما أنه كان يعرفهم جميعا: هم بعض الصيادين والقرويين، والكامبونيسس «الذين يزرعون الأرض، أو يزرعون أشجار السوبريروز الفلينية» فى النهار، أما فى المساء فإنهم يجتمعون فى البار الوحيد فى البلدة يشربون «الفينهو» الذى هو النبيذ، وإن تحدثوا ففى أصوات خفيضة، كانت أطباق المزة أمام الجميع عبارة عن أطباق صغيرة من سمك السردين المشوى بحجمه الصغير، أو بعض حبات البستاكيوس «الفستق» والأميندواز الفيرديز الذى يشبه حبات الفول الأخضر، غير أنها أكبر قليلا، فحبة اللوز الأخضر على أية حال أكبر من حبة الفول الأخضر، قال «ألبيرتو» هامسا وقد ضربت الخمر فى يافوخه: «إنهم فى أعماقهم شرسون، ويمكنهم أن يفتكوا بأى أحد قد ينافسهم فى مكان الصيد أو يعوقهم عن نزع الفلين من جزوع الأشجار، فهم يكابدون الألم والإحساس بالظلم من بعض المتنفذين التابعين لـ«الكونسيلهو لوكل»، الذى هو المجلس المحلى للبلدة، فمنهم من لا يزال حتى هذه اللحظة ينامون فى أكواخ المزارع فوق فراش من «الساكوس دى فينو» ذلك التبن الذى يخلطونه فى غذاء مواشيهم، ولا يخفف من آلامهم قليلا إلا «الكابولا» فى كنيسة البلدة، صدقنى، ها أنا اليهودى يقول لك أنت المسلم كل هذه الحقائق، وصدقنى أكثر لو قلت لك أنى أختنق فى هذه البلدة، فإذا صدقتنى فسوف أخبرك عن سرى، لن أحاول رؤية أوديت الكاثوليكية التى عشقتنى وعشقتها، كما أن هذه هى آخر ليلة لى فى كانيكال».
وللمذكرات بقية