- ائذن لى فى الزنا!! يا لها من كلمة، كيف جرؤ ذلك الشاب أن يقدم على قولها بين يدى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! أى شهوة مستعرة تلك التى تلظى لهيبها فى قلبه اليافع وأدت به إلى ذلك المسلك العجيب ودفعته لذلك الجهر الرهيب؟ تصاعدت أصوات الهمهمات الغاضبة زاجرة الفتى عما يخوض فيه بين يدى النبى دون استحياء، لكن صوتا حانيا قطع كل تلك الهمهمات الزاجرة داعيا الفتى المستأذن بالزنا لآخر ما يتصوره جافٍ أو قاسى القلب. لقد تكلم رسول الله، ولقد قال كلمة تقاطر منها آخر خلق قد يتصوره القساة مع مثل هذا المطلب الذى قدم به الشاب. ادنه، أى اقترب. هكذا عامله رسول رب العالمين دعاه ليقترب منه! ناداه لينهل من حسن منطقه وعذوبة حديثه وحكمة دعوته..
- أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟
- لا واللهِ جعلنى اللهُ فداءَك.
قال الرسول: ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم أفتُحبُّه لابنتِك؟
-لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلنى اللهُ فداءَك.
-لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ منطق هادئ سديد وحكمة دعوية رائقة وحسن معشر ولين جانب وخفض جناح، هكذا كان سيدنا رسول الله! وها هو يكلل حسن دعوته بلمسة حانية ومودة عملية صافية، ها هو يمد يده ليمسح بها على صدر الفتى المستعر بالشهوة ويتبع مخاطبته الأولى لعقله، بتربيت رحيم على محل عاطفته ومكمن مشاعره ليتكامل خطاب المنطق مع ملامسة الفطرة وليخرج الشاب وقد زالت وساوس الشيطان من صدره وهدأ قلبه وارتاحت نفسه لقد كان حبيبنا أرأف معلم كما وصفه معاوية بن الحكم السلمى حين صلى خلفه بعد سفر غاب فيه ولم يعلم أن الكلام قد حرم أثناء الصلاة، عطس رجل من المصلين فقال معاوية: يرحمك الله، فرماه القوم بأبصارهم.
- واثُكلَ أُمِّياه! ما شأنُكم تَنظُرونَ إلىَّ؟.. هكذا أكمل كلامه أثناء الصلاة، فجعل القوم يضربون على أرجلهم أى اسكت وازدادت الهمهمات الزاجرة تنهاه ضمنا عما يفعله فى الصلاة، سكت معاوية وقد فهم أنه قد تجاوز من حيث لا يعلم، ثم انتهت الصلاة فالتفت النبى سائلا من المتكلم فى الصلاة؟ فلما أعلن معاوية عن نفسه وتقدم بين يديه ما قهره ولا سبه ولا زجره، فقط علمه وبين له موطن خطئه، وكان بشهادته أحنى ناصح وأرأف معلم، وحين كادوا أن يفتكوا بالأعرابى الذى تبول فى ناحية المسجد زجرهم عن ذلك مشفقا أن يقطعوا على رجل بولته، أويعقل أن يكون ما يشغله هو انقطاع بولة الرجل بشكل مفاجئ يؤذيه؟ الجواب: نعم.. مع رسول الله الرؤوف الرحيم الشفوق الرفيق يُعقل ذلك، ومادام الحل بسيطا وإصلاح الخطأ متاحا فلمَ الغلظة والشدة مع رجل جاهل لا يعلم؟!
- أهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، كذلك كان الحل ببساطة وليعلم الرجل الحكم بعد ذلك وليدرك قيمة المساجد وحرمتها ووجوب طهارتها.. لكن برفق وبرغبة صادقة فى التغيير للأفضل، وكم من زلات ومواطن ضعف قد سارعنا بجلد صاحبها بسياط توبيخنا الفاضح ولنهوى بها على ظهر روحه ونُصْلى نفسه بمرير ألفاظنا المعلنة دون أن نفكر قبل أن نجلده أننا بذلك قد نعين شيطانه عليه ونزيد فى نفوره وإبعاده منا ومن قبول نصحنا ونفتح له أبواب العزة بالإثم على مصراعيها بدلا من حرصنا على إغلاقها بمتاريس الهداية وأقفال التوبة، ولو أننا صدقنا فى حرصنا على نفع المخطئ ورغبتنا فى خيره وإصلاحه لانتقينا مما نحب لأنفسنا ولتسربل نصحنا بثياب الستر والشفقة ولتمثلنا أحيانا حال الطبيب العطوف الرحيم بدلا من حُلل المحقق الصارم الذى يبحث عن متهم ليدينه.. فقط لو صدقنا.