لم يكن تأخر وزارة الثقافة فى إصدار نعى لشاعر مصر الأكبر عبدالرحمن الأبنودى من قبيل المصادفة، ولكنه يأتى وسط حاجة حرجة تعيشها «الثقافة» بعد أن غاب عنها وعيها ودخلت فى دوامة الصغائر ولم تصبح قادرة على الرؤية ولو حتى تحت قدميها، فالوزارة التى من المفترض أن تحتفى بالأبنودى وتعتبره مثالا للمبدع الكبير المتوغل فى عمق وعى الجماهير والمتفاعل مع قضايا وطنه والمعبر عن لسان حال شعبه وهمومه لم تنعه إلا بعد أن نعته الدنيا كلها بما فى ذلك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقطاعات الوزارة وهيئاتها.
مرة أخرى نتحدث عن إهدار قيمة الوطن بإهدار معانيه الكبرى، وعدم الاحتفاء الكافى برموزه الذين أصبحوا جزاء جميلا فى تاريخه، فإلى الآن لم نفتتح متحف نجيب محفوظ، وإلى الآن لم نشرع فى التخطيط لعمل برنامج المزارات المحفوظية الذى يخلد الأمكنة التى تناولها محفوظ فى رواياته، وإلى الآن لم نلتفت إلى قيم إنسانية وشعرية كبرى مثل فؤاد حداد وصلاح عبدالصبور وبيرم التونسى وسيد درويش وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وصلاح جاهين وغير تلك الأسماء اللامعة عشرات وعشرات، فماذا يتبقى من الوطن إن تخلينا عن هؤلاء؟
لسنا فى حاجة هنا إلى ذكر كلمة مدح عن هؤلاء المبدعين العظام ولسنا فى حاجة أيضا إلى إشارة لفضل هؤلاء العظماء على تاريخ مصر وإبداعها ومكانتها، وإنى أزعم أن مصر بدون هؤلاء ستكون مثل السيدة الجميلة المدفونة، فالتاريخ للتاريخ، أما الحاضر فبمقدار ما تسهم به الإبداعات الوطنية فى مسيرة الوطن، ولقد تعبنا من الحديث عن قوة مصر الناعمة وأثرها وفوائدها فى حين أننا لم نكلف خاطرنا بتدعيم هذه القوة أو حتى تركها دون تخريب.
على السادة المسؤولين أن يفكروا جيدا وهم يخططون للمستقبل ويقدمون الحلول والمشروعات لخدمة الوطن، أن يتساءلوا عن القيمة التى يبتغون ترسيخها لدى الناس، عن «القدوة» التى يريدون تقديمها إلى الشباب، عن الرسالة التى يبعثون بها إلى الأجيال القادمة، فهذا شاعر لم يتخلف يوما عن نداء الوطن، ولم يبخل بمال أو عمر أو صحة عن المشاركة فى صنع التاريخ أو تخليده، وللأسف يأتى هذا الظرف المؤلم ونحن نتفنن فى إهدار قيم الوطن وتبديد معانيه.