فى أربعينيات القرن الماضى غنّى الراحل العظيم محمد عبد الوهاب من شعر الراحل الكبير بيرم التونسى، أغنية "محلاها عيشة الفلاح" التى جاء المقطع الأخير فيها كأنه يصف حال الريف المصرى والمدن المصرية فى هذه الأيام، حيث يقول عمنا بيرم (يا ريف أعيانك زهدوك.. وعزالهم شالوا وهجروك.. لمداين مزروعة شروك.. ياما بكره يقولوا ياندماه)، والشاهد أن أهل الريف فى غالبيتهم- وليس أعيانه فقط- هجروا قراهم إلى هذه المدائن المليئة بالشروك والشرور، ولم يندم منهم إلا قليل، فتحولت المدن بهذه الهجرات إلى قرى كبيرة، بعد أن طبعها أهل الريف بطابعهم، إلا ما سلم من أحياء قليلة جدا.
ولئن كان أهل الريف قد تزيّوا بزىّ أهل المدن، واختلطوا بهم فى مساكنهم وأحيائهم، إلا أن الغالبية العظمى منهم بقيت محافظة على عادات أهل الريف، ولم يقطعوا صلتهم بعائلاتهم التى بقيت فيه، فيحرصون على زيارتهم فى الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة، فتضاعفت الضغوط على وسائل المواصلات والطرق التى تربط الريف بالمدن، حتى تهالكت وساءت حالة هذه وتلك، فى ظل عدم وجود الصيانة والمتابعة الدورية لهما.
ونتج عن هذا النزوح من الريف إلى المدن- ومنها العاصمة القاهرة- أن ازدحمت المدن هذا الازدحام المخيف الذى نعيشه هذه الأيام، وتغيرت طبيعة أحيائها وشوارعها بل وسكانها وبيوتها وحواريها، وبرزت الحاجة إلى التوسع فى البناء لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المواليد الجدد، فزحفت القاهرة فى البداية إلى ما حولها من أراضٍ زراعية فحولتها إلى غابات من الأسمنت المسلح والطوب، حتى إذا أتت عليها تحولت إلى الصحراء تغرس فيها البنايات العالية وتقيم فيها المدن الجديدة.
لقد تم تصنيف القاهرة فى الأربعينيات من القرن الماضى كواحدة من أجمل مدن الدنيا، فكيف كانت عاصمتنا؟
لقد كان أفقها فسيحا، ونسيمها عليلا، وصيفها مقبولة حرارته، وشتاؤها محتملة برودته، وشوارعها غير مكتظة بالمركبات ولا بالناس، وبيوتها نظيفة تدخلها الشمس والهواء، منسقة فى ارتفاعاتها الموحدة حسب الموقع والشارع التى تطل عليه، وكانت زاخرة بالحدائق الغنّاء الموزعة على جميع أحيائها، وكانت طباع أهلها- فى مجملها- سمحة هينة لينة، وكان دين أهلها المحبة والمودة واحترام الأهل والجار وأبناء الوطن والسائحين الغرباء .
فأين عاصمتنا الآن من هذا التصنيف؟ لقد عكست الأيام والهجرات والتكاثر كل مواصفات مدينتنا للأسوأ، فصارت قبيحة الشكل والمضمون إلا قليلا، وصارت تجهل النظام، وتحارب الجمال، وتكره النظافة، وتعادى المحبة والألفة، وترفع لواء الكراهية للأفراح والزينات والأعياد، وصار دينها التشدد والغلو والكراهية القاتلة .
ولن أتناول ما فعلته هجرة المتشددين الجهّال من مدّعى التدين من أهل الريف إلى القاهرة، وما غيروه من طبيعة أهلها المتسامحين الودودين، فلقد رأيت فى بعض أحيائها حارات لا يزيد عرضها عن ثلاثة أمتار، أى لا تسير بها السيارات، ومع ذلك ففيها عمارات متقابلة يصل ارتفاعها إلى خمسة عشر طابقا، وهى متجاورة بشكل متلاصق، فكيف يدخل شققها النور أو الهواء، وعلمت أن بُناتها جاءوا من ريف الوجهين، وأنهم اشتروا الأرض وأقاموا عليها العمارات العالية وباعوا شققها لسكانها ثم عادوا إلى موطنهم، ولا أعلق على مثل هذه الأفعال إلا بالقول إن هذا قليل من كثير مما فعله أغنياء الريف الذين هجروه إلى المدينة ولم يندموا بل أصابوا خيرا كثيرا لأنفسهم، وأفسدوا علينا مدينتنا التى كانت يوما من أجمل مدن الدنيا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الله يرحم الفلاح وبيرم التونسى وعبد الوهاب - يا عزيزى السلطه عايزه بيت جحا
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الريف متروك للجهال والعنصريه والتعصب وطبيعى كل ذلك ينتقل للعاصمه فهى مركز كل الفساد
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
تتعجب الحلول والدراسات موجوده من عشرات السنين ورغم ذلك طناش الحكومه وانشغالها بالتوافه مستمر
بدون