المفروض أن الدولة تكون صورة لمجتمعها، أى هى انعكاس لخرائطه وقواه وتنوعه وتعدده، بيد أن الدولة حين تبدو متربصة بمجتمعها خائفة منه، فإننا نكون إزاء أزمة ربما تكون تعبيرا عن فجوة تمثيل الدولة للمجتمع، وفى الدول المدنية يكون المجتمع هو الأصل، فهو، أى الشعب، من يختار الرؤساء الذين يمثلون السلطة التنفيذية، وهم يمنحونها الشرعية بشروط القيام بالبرنامج الذى على أساسه تم اختيار الرئيس، ويتم حسابه على العقد الاجتماعى الذى أعطى الشعب له صوته لينجزه، ثم هو، أى الشعب، لا يعطيه تفويضا ولا شيكا على بياض وإنما يختبره فإن لم يحقق ما يريده الشعب، فإن هناك مبدأ تداول السلطة، أى يتم إعادة الحق فى الاختيار إلى صاحبه الأصلى، ليقرر من يختار من جديد، لأن السلطة مفسدة مطلقة ولا يمكن حمايتها إلا برقابة قوية من برلمان له صلاحيات قوية تمكنه حتى من سحب الثقة من الحكومة، كما أن السلطة القضائية هى التى تتولى مسؤولية تطبيق القانون وتنفيذه لتحقق العدل بين الناس من ناحية، وبينهم وبين دولتهم من ناحية أخرى.
لا تقوم الدولة الحديثة المدنية على وجهة نظر واحدة، لأنه لا يوجد مجتمع بلا تنوع ولا تعدد، ولذلك كان لا بد من الأحزاب المتعددة التى تحمل برامج مختلفة، وفق مناهجها ورؤيتها المتنوعة لمشاكل بلدانها، وهذه الأحزاب تتنافس على السلطة عبر إقناع المجتمع والشعب ببرامجها، وتعد قوة الأحزاب السياسية عنوانا للنظم السياسية القوية، فنظم الحزب الواحد التى سادت فى العالم العربى فى الخمسينيات والستينيات لم تستطع أن تحقق التنمية، كما لم تستطع أن تحقق الالتزام بمعايير احترام حقوق الإنسان وكرامته، واعتبار الإنسان هو الهدف النهائى للنظم السياسية.
المجتمع المدنى ونشاطه مهم، لأنه يمثل حراكا من أجل المجتمع، وهو يقف موقف الوسيط بين المجتمع والسلطة، وهو يشارك الدولة فى تحمل الأعباء بدلا من أن تنفرد الحكومة بها، كما أنها تعبر عن المنظمات غير الحكومية أى تلك التى تعبر عن المجتمع، وهو عمل تطوعى اختيارى من ذلك النقابات المهنية المختلفة التى تحمى مصالح أعضائها، وجمعيات حقوق الإنسان وجمعيات حماية البيئة، والجمعيات الدينية، وغيرها من الجمعيات الأهلية. وتمثل الصحف والقنوات الإعلامية رافدا مهما يعبر عن المجتمع، فهى مستقلة عن الدولة وتعبر عن المجتمع بحيادية ومهنية واستقلال، كما تعبر عن أحد أهم أدوات الرقابة على أداء الحكومة، فى ظل غياب البرلمان الذى يعد الأداة المهمة للرقابة، ويحتاج الإعلام المصرى بعد الثورة إلى الالتزام بمواثيق الشرف التى تفرض الصدق والمهنية واحترام الحياة الخاصة، وعدم الجرى وراء الشائعات وافتعال الأخبار التى تؤدى إلى الاستقطاب فى المجتمع، كما أنها بحاجة إلى ظاهرة اختفاء الإعلامى الداعية الذى يحتكر وقت برنامجه للخطابة والتحدث بمفرده لما يراه هو دون وجود متخصصين لتقييم ما يقوله.
تبدو لى مصر وكأن الدولة وحدها هى التى تحمل فوق كاهلها كل الأعباء، لأنها لا تريد للمجتمع أن ينمو ولا تريد لمؤسساته أن تتطور، هناك حساسية من بناء لصحافة مسؤولة كما هو الحال من انزعاج الشرطة من تحقيقات صحفية حول ممارساتها، وهناك خوف من تطور الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية والنقابات المهنية، المستقبل فى مصر يحتاج للدولة أن تتخفف من نظرتها الشمولية وتدع المجتمع ينشئ مؤسساته وصحافته تتحدث بلسان الإنسان المصرى، الثورة فتحت الطريق لدولة أقل شمولية وأكثر مسؤولية ولمجتمع يحتاج إلى فتح نوافذ الحرية.