علينا ابتداء أن نعترف بأن الثقافة العربية قد انحدرت إلى مستوى مخيف، رغم حديث رسمى مستفيض عن التحديث والتنوير والإصلاح، فالواقع العملى شهد بجلاء غياب مشروع ثقافى يليق بأعرق دول فى تاريخ الإنسانية، وأكد بما لا مجال لشك فيه عدم وجود أى استراتيجية ثقافية تخرج العرب من ضيق الآنى والحالى إلى براح الآتى والتالى، وتعزز ثقافتهم الوطنية لتصد وترد الثقافات الغازية الموزعة على تفلت ونزعة استهلاكية ظاهرة، وتشدد فقهى ممقوت، ومن أسف أن بعض المثقفين قد انسجموا، أو تواطئوا مع هذا الوضع المزرى، وظلوا سادرين فى صمتهم المريب وانتفاعهم المخزى، ورضوا بتراجع دورهم الطليعى، واكتفوا بالفتات المتاح الذى تهبه الفرصة وقبلها السلطان الجائر، وتماهوا بشكل مثير للاستغراب والاشمئزاز فى آن مع تحول الثقافة، فى الغالب الأعم، إلى عمل مظهرى يتقدم فيه الشكل على المضمون، والمهرجان على الأثر، والعابر على المقيم، والفرد على الجماعة، والتشتت على التوحد، والأثرة على الإيثار، والأمس على الغد، فى ظل غياب التفاعل الخلاق بين المؤسسات الثقافية الرسمية والواقع المعيش، ومع الاكتفاء برطانة زاعقة وبلاغة جوفاء، فى ضجيج بلا طحن، على حساب عمل يتوخى العلم ومنهجه، وممارسة تنتصر للنهوض والتقدم والتحقق، وتصور ينحاز إلى أشواق العرب جميعا إلى الحرية والعدالة والكفاية والكرامة والسمو الأخلاقى والامتلاء الروحى.
وتم اختزال أدوار وزارات الثقافة فى النشر المشروط للكتب، والتوزيع الموسمى للجوائز، وإقامة إنشاءات وترميمات ينهض بها المقاولون وتحسب فى سجل إنجازاتهم، وتتقدم بها المبانى على المعانى، ومحاولات مستميتة لتدجين أرباب الفكر والفن، بغية توظيفهم فى تبرير السياسات الاعتيادية الارتجالية القائمة مهما كانت هابطة، واستعمالهم فى تجميل التصورات القبيحة التى تشد كل شىء فى حياتنا إلى الوراء.
إن من يمعن النظر فى حالنا الثقافى سيصدمه على الفور تبخر الشعور بالانتماء من بين جوانح العديد من المثقفين، لفقدانهم الثقة فى قدرة المؤسسات الثقافية على تقديم شىء إيجابى، وسيكتشف هذا الفصام النكد بين قطاعات عريضة من منتجى الفنون والمعارف والحراك السياسى الذى كانت تموج به الكثير من الدول العربية بشكل لا يخفى على كل ذى عين بصيرة وعقل فهيم، وسيضنيه غياب مشروع ثقافى حقيقى لدى السلطة وفى برامج أحزاب المعارضة وممارساتها، وسيفجعه استشراء الروح الجامدة والمتزمتة على التفكير الدينى بما يضرب فى مقتل الثقافة الأصيلة التى طالما انحازت إلى الوسطية والاعتدال، وحافظت على التسامح والتنوع الخلاق، وشجعت على الإنجاز والحداثة، وستروعه كذلك حالة الاحتقان الطائفى والطبقى والجهوى التى راحت تتزايد يوما إثر يوم، وسيوجعه تخلى أغلب المثقفين عن الناس، مرة تحت وهم «موت الأفكار أو السرديات الكبرى، ومرات تحت وطأة اللهاث وراء المجد الذاتى، وفق معادلة جهنمية تقول: «دعه يخطف دعه يمر»، أو تحت نير الحذر والخوف استجابة لهاتف الخائرين: «انحنوا للعاصفة». إن الوقت قد حان لانخراط المفكرين والمبدعين فى بناء تصور بديل، يعيد الثقافة إلى أصحابها، وينزعها من التجار الذين حولوها إلى سلعة رخيصة وتكسبوا بها دون أى وازع من دين أو وطنية أو أخلاق، وصمتت السلطة على هذا المسلك الوعر قبل ثورة يناير، لأنها لم تكن تروم نهضة ولا تقدما إنما كانت تستخدم الثقافة والمثقفين مجرد قلائد للزينة تضعها على جسدها المتحلل، لعل الناس لا يلتفتون إلى تداعيه وتعفنه، وينشغلون بهذه الزينة العابرة. وكانت تستخدم العلم مثل «الصلصة» التى توضع على السمك المشرف على التعفن لعلها تجعله مستساغا.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
بنا ء صرح الثقافه يحتاج عقول واعيه مخلصه لا تعانى من الفقر والقهر وهذا للاسف ما نفتقده
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
ابتزاز اموال الناس بالباطل اصبح هو السمه التى تحرك كل مشارعنا ومشاعرنا - الدليل حولك فى كل مكان
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
عوامل التخلف راسخه فى كل المجالات وللاسف نعمل المستحيل لبقائها واستمرارها
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
عزة
طرح القضية جيد .. ولكن!