عرفت عبد الرحمن الأبنودى لأننى صحبته فى السفر، حسبما روى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما سمع أحدهم يقول: إنه عرف فلانا فسأله عدة أسئلة منها: هل ائتمنته؟ فقال: لا، ثم هل سافرت معه؟ فقال لا: ورد عمر: إذن أنت لم تعرفه!.. وعرفته لأن من عرفنى به عن قرب كان الراحل العزيز محمد عروق الإعلامى المعروف ومدير صوت العرب الأسبق.. ورفيق درب العمل السياسى فى تنظيم الطليعة العربية الذى ساهم معنا فى تأسيسه بعد خروجه من السجن الطويل عقب أحداث مايو 1971.. وكانت لقاءات مع الأبنودى رحمة الله عليه فى الشارقة وخاصة فى منزل الراحل الكريم والصديق العزيز الأستاذ تريم عمران صاحب ومؤسس دار الخليج للصحافة التى عملت فيها قبل إصدار صحيفة "الخليج" اليومية ومازلت أعمل ــ أى صار لى حوالى 36 سنة صحفيا بصحيفة "الخليج" ــ وقصتى فى الصحافة تستحق أن ترصد بعض زواياها، لأن فيها على ما أظن ما هو أوسع من علاقة شخص مصرى بمؤسسة خليجية!
فى منزل المرحوم الأستاذ تريم كانت لنا سهرات يتصدرها الخال عبد الرحمن رحمة الله عليه، وأظنه قد اختار صفة "الخال" ليطلقها على أصحابه لأن تراثنا الشعبى يعتبر الخال والدا.. وعادة ما تكون الجدة للأم والخالة والخال أكثر حنانا من غيرهم على ابن البنت والأخت.. ناهيك عن أن علامة الحسن فى الوجه هى "الخال" على الخد أى "الشامة أو الحسنة" المطبوعة أو الناتئة بالقرب من وجنة الوجه!.. وكان الأبنودى فى رحلاته خارج المحروسة وخاصة فى دول الخليج العربية شديد الحساسية لدرجة تغيظ، وما أن يتسرب إليه أى إحساس بمقاييس الفمتوثانية ــ أى واحد على مليار من الثانية ــ بأن ثمة استهانة أو تعاملا لا يرضاه هو إلا وتجده قد صار حرونا عنيدا إلى ما فوق أقصى حد!
ومن بين ما كان يثير حساسيته أن يعامله البعض ـ وهو يدرك أن نيتهم حسنة جدا ـ باعتباره مؤديا للشعر بحيث إذا انتهى الطعام والشراب أو أثناء الشراب قيل: نريد أن نسمع شعر الأبنودى، امتنع عبد الرحمن عن فوره إما نهائيا عن قول شعره فى الجلسة أو لوقت قد يطول.. وأذكر ذات مرة أن كنا سهرانين والجلسة جميلة وفيها مع الأبنودى شاعر آخر اشتهر بخفة الظل وسرعة البديهة هو الشاعر البحرينى عبد الرحمن رفيع، وأثناء الجلسة طلب الحضور الاستماع إلى الخال فتمنع الخال كعادته، ولكنه لم يكن قاطعا فى امتناعه، وهنا انطلق عبدالرحمن رفيع بصوته الجلى وأخذ يردد شعره من مختلف الأنواع والدرجات بما فيها ما يماثل لونا أجاده أبو نواس وبشار وابن الرومي، وهو اللون الخارج عن كل القواعد المؤدبة!.. وكلما ازداد الشراب وزاد استحسان السميعة لرفيع تعاظم تمنع الخال لدرجة الغضب العارم عندما أصر أحدهم على أن يسمعه!
كان الأبنودى مثله مثل رموز أدبية وفنية يستنكف أن يكون مسليا للقعدة، مثلما فعل عادل إمام ذات مرة كنت حاضرا فيها، إذ سأله مضيفه المهم: ما تقول لنا حاجة تضحكنا أستاذ عادل! ورد الزعيم: متأسف.. أصل أنا خارج المسرح وفى القعدات الخاصة دمى تقيل.. ولكن الخال عندما يأنس للقعدة ويكون الحضور من خلصاء محبيه، يلغى الفروق وينطلق بخفة ظل هائلة، وأذكر مرة أنه انطلق فى التنكيت والقفشات، وكان من قفشاته أن سائقى النقل كانوا يكتبون على سياراتهم عبارات ذات دلالة أسفل الصندوق الخلفى، ومنها أنهم تعودوا طوال الوقت كتابة: هذا من فضل ربى، ورأس الحكمة مخافة الله.. وبعدما كثرت الفلوس جراء السفر لبعض الدول العربية المنتجة للنفط غيروا العبارة فصارت: هذا من فضل دبي.. ورأس الخيمة مخافة الله!
ولقد أصر الخال طوال الوقت.. على الأقل فى الأربعين سنة وأكثر قليلا التى عاصرت فيها الحركة السياسية والأدبية.. أن يبقى معتصما بموهبته وإنتاجه الغزير ومحبة الناس له تلك التى أنزلته منزلة خاصة لم يلقها كثير من شعراء العامية.. وأيضا الفصحى، ولذلك لم نجده طرفا فى خصومات شاعت بين "أهل الكار".. هذا يدعى أن ذاك عميل للسلطة.. وذاك يدعى أن فلانا سرق قصيدة له، وهذا وذاك والآخر يدعون أن علانا صنايعى أو ميكانيكى شعر وليس مفطورا موهوبا!. ولم يكن الخال يضيع وقته فى تلك المهاترات ويسمو عاليا فوق كل الادعاءات التى حاول أصحابها التقليل من شأن إبداعه ودوره فى تجلية الوجدان الوطنى والقومي، وهو جزء لا يتجزأ من الوجدان الإنسانى العالمى المعاصر! ولقد بلغت درجة التسامى عند الأبنودى درجة مميزة لم يصلها إلا ندرة من الرموز كإسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى وعبد العظيم أنيس، الذين ذاقوا صعوبة وقسوة السجن والاعتقال فى الخمسينيات والستينيات، ومع ذلك أعطوا للحقبة الناصرية وزعامة جمال عبد الناصر وزنهما وعظموا الدور الوطنى والقومى التحررى الإنسانى للتجربة وقائدها.. وهكذا فعل الأبنودى وكتب كلماته الوطنية والقومية التى ذاعت فى كل أرجاء الأمة العربية، عندما شدا بها عبدالحليم وشادية ورشدى وغيرهم ولحنها الطويل والموجى وبليغ.. يعنى قمم متضافرة فى الكلمة والصوت واللحن، وظل الأبنودى حتى آخر لحظة وفيا للإنجاز الوطنى وللعزة والكرامة، وهى قيم تجلت فى الحقبة الناصرية ويعلن عن ذلك فيصدقه الناس لأنه صدر عن قلبه ووجدانه فوصل إلى قلوبهم ووجدانهم. رحمك الله أيها الخال.. لأن الخال والد.. والخال هو رمز الحسن فى كل وجه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة