فى كل فترات الضعف الإسلامى الماضية كان الصراع يبدو فى ظاهره بين متطرفين وإصلاحيين، متطرفين يقدسون النص التراثى، ويكرهون الدلالات، ويحبذون السلف، ويستسهلون التحرير، وإصلاحيين يفضلون إعمال العقل، ويعتبرون أنفسهم دعاة لمنهج التفكير السليم، ويعرفون الفرق بين الإبداع والابتداع، بينما فى الحقيقة هو اختلاف بين منهجين علميين فى التفكير، كلاهما يسير فى نفس الاتجاه، لكن سرعة كل منهما تختلف عن الآخر.
وكانت قوة المنطق الإسلامى ذاته، والرصيد التراكمى الكبير من النقاشات الفقهية بين أشخاص فضلوا أن تكون خلافاتهم زيادة فى البناء، وليس نقضًا له، ورحابة النفوس التى صاحبها اتساع فى مساحة العقلانية الرشيدة، كانت أسبابًا فى امتصاص آثار التدمير الذى خلفته تلك المهارشات الفكرية التى وصلت شراستها فى كثير من الأحيان إلى درجة إتلاف الأرواح، وإقامة الحدود على المخالفين فكريًا، حتى وصلنا هذا الكيان الذى نعتبره اليوم تراثًا مضطربًا يحتاج لكثير من المراجعات.
هذا الكيان - التراث - الذى أصبح مرمى لكل الباحثين فى تفاصيل البناء الإسلامى، ومن بعدهم للباحثين عن الشهرة، لم يكن يصلنا لو أن من عاشوا قبلنا استسلموا للأعلى صوتًا والأكثر صخبًا، هذا الصخب الذى أفسد سمعة إعمال العقل، وجعلها تهمة يجب التطهر منها، حتى أن مفكرًا إسلاميًا على وزن الدكتور محمد عمارة اعتبر العلمانيين «مخنثين وأشباه رجال»، وللإنصاف فإن هذا التطرف يكون فى كثير من الأحيان رد فعل طبيعيًا للاتهام بالانحلال ومحاولة إخراج الناس من الدين.. فى النهاية أصبحت كل طرق التفكير سيئة السمعة، وجميع كتب التراث مليئة بالخرافات، بينما لا خيار لأشخاص عاديين أمثالنا سوى الاختيار بين الاثنين، دون أن تكون لديهم خيارات أخرى.
من السهل جدًا أن تشتم و«تهتك عرض» أى عمل إنسانى تختلف معه، لكن سيظل عسيرًا عليك أن تكون صاحب منهج سليم، كيف تدفعنى لاستخدام العقل، وأنت لم تقدم لى ما يفيد بأنك استخدمته أولًا؟.. كل من سبقوا أثاروا نقاشًا فى التراث لأنهم أحبوه وخافوا عليه من الهدم، لم تكن هواجس سيطرت على عقولهم مثل البحث فيما كان يفكر الصحابى الجليل أبوبكر الصديق حين شن حروب الردة.. كان نصرة للدين أم بحثًا عن المال وتثبيتًا للحكم؟