لا خطوة واحدة للأمام يمكن أن يقتنصها هذا الوطن أو هذه الأمة دون معارك فكرية، شرط أن تتم على طريقة العلماء لا فتوات الحارات أو رداحات الشوارع.
كنا ومازلنا الأشد احتياجا لمعركة التجديد، العقل ضد النقل، التفكير ضد السمع والطاعة، الاجتهاد ضد الدوران فى فلك عبدة النص، التطهير والتنقيح والتحقيق ضد التقديس وإنزال كتب بشرية منزلة كتاب إلهى، نحتاج إلى هذه الحرب الفكرية حتى لا نسقط فى فخ الماضى وما يرافقه من تطرف.
الحاجة إلى تلك الحرب ضرورية، ومن يخوضها بلا شك شجاع، ولكن من يشعلها أو يقرر خوضها قبل أن يسأل أى شكل لهذه الحرب نريد؟ يجعل من شجاعته حماقة، ويكتب للحرب نهايتها الفكرية معلنا دوام نارها تأكل بعضها وتصيب الناس بذعر وخوف يردهم إلى حالة السكون، أو حالة مالنا ومال التجديد كنا نسمع ونطيع ونسير بسلام وفق ما جاء به آباؤنا وأجدادنا.
يحدث هذا لو أخطأ أحد أطراف الحرب، ونقلها غرض فى نفسه من إطارها الفكرى إلى هوى المصالح وفخ الشعبوية، فمابالك لو أن أطراف الحرب كلهم قد سقطوا فى نفس الفخ، فخ سوء اختيار الشكل الذى قرروه لهذه الحرب (التجديد الدينى)؟!
ضجيج بلا طحن وتكسير عظام بلا نتيجة، هو محصلة معركة تجديد الخطاب الدينى التى يوهمنا أطرافها أنهم يخوضونها الآن من أجل المستقبل، تابع تفاصيل المشهد الدائر الآن بين مكعبات الحجارة التى يلقيها إسلام بحيرى فى مياه التراث الإسلامى الراكدة، وبين الرد الأزهرى الطفولى الذى فضل الشكوى على الحوار، وبين وسائل الإعلام التى تقف على ضفة أخرى بعضها يتربص فى انتظار لقطة ساخنة أو مشادة مثيرة.
هؤلاء الثلاثة، إسلام كممثل لنوع يحمل لقب «تنويرى» مهمته تقليب الأرض وتنقيح وتحقيق القديم من الكتب المهملة ولكن تخذله استنارته ويغلبه هواه فلا يجيد اختيار الطريق الأمثل لخوض معركته، فيحركه الغرض الكامن فى نفسه لاختيار السيئ من الألفاظ وزيادة جرعة السخرية وإهانة كل قديم من فقهاء وعلماء وأئمة بعضهم بذل فى زمنه ما فى وسعه للجمع والتجديد، فلا يصح أن تأتيه طعنة السب والسخرية من باحث يدعو الناس لإعادة النظر إلى التراث أو الخطاب الدينى وفق تطورات العصر الحالى، ولا يصح أن يكون عموده الأساسى فى الحرب على بعض الفقهاء المتطرفين أو المدلسين كما يقول هو التشكيك القائم على السخرية والاستهزاء لا العلم ورد الحجة بالحجة.
الأزهر كطرف ثان، يشارك فى جريمة وأد معركة تجديد الخطاب الدينى، لأن المطلوب من المؤسسة الدينية الأزهرية أن تكون نبراسا للمواجهات الفكرية، لا مكتب شكاوى واتهام بالتطرف والتكفير، المطلوب منها أن تخوض معاركها كما العلماء والمفكرين، لا كأمناء الشرطة والمخبرين، والإعلام كطرف ثالث، مطلوب منه أن يكون مائدة لاستضافة الحوار وتحديد معاييره لا أن يكون «بوتاجازا» يعلى من نار شعلته لتسخين الأجواء والحصول على «شو» يجلب عددا أكبر من المشاهدين.
المخلصون إن أرادوا تجديدا للخطاب الدينى وإنقاذا لسمعة هذا الدين، فستجمعهم مائدة واحدة، ستطفو الابتسامات وعلامات الإرهاق من شدة الجدل والنقاش والتفكير والبحث على ملامح وجوههم، بدلا من تلك العروق النافرة والوجوه المتعرقة والخدوش المتفرقة التى لا تصنعها سوى «خناقات» الحوارى.