قبل أن أجيب عن هذا السؤال علينا تحديد ما المقصود بالفن، كما علينا التنبيه إلى أننى أتحدث عن الفن الجيد.. المؤثر.. الجميل، ولا أتناول الغث أو الثقيل أو الخشن!
كل ما يندرج تحت بند الإبداع يمكن أن نطلق عليه «الفن»، فالشِعر والرواية والرسم والنحت والموسيقى والغناء والعمارة والمسرح والسينما.. كل هذه المنتجات تعد من الفنون الرفيعة التى تخاطب الوجدان فى المقام فى الأول، وعليه نعود إلى سؤال العنوان: هل الفن موهبة أم صنعة وحرفة وممارسة؟
الشائع أن الفن موهبة، فيقولون لك هذا عنده موهبة الرسم، وذاك يمتلك موهبة الشعر، وثالث يحظى بموهبة الموسيقى.. إلى آخره، ثم يفسر الناس تميز فلان أو علان بأن الله منحه موهبة متفجرة، فهل هذا الكلام صحيح، وما مدى صحته؟!
عندى، إن هذا الكلام صحيح لكنه منقوص تمامًا، ذلك أن الشرط الثانى- بعد توافر درجة ما من الموهبة- لتميز فنان يتمثل فى قدرته على امتلاك قوانين فنه، فلكل نوع من أنواع الفنون قانون خاص به، لا يمكن التوصل إليه إلا بعد دأب ومثابرة وتدريب شاق حتى يستجيب ويلين ويخضع لضرورات الموهبة. سأضرب لك مثلا.. هل يمكن لشاعر أن يبدع لنا قصائد جميلة دون أن يكون قد اطلع على دواوين المتنبى وشوقى وعبدالصبور وحجازى ونازك الملائكة ونزار ودرويش إلى آخر هذه القائمة الجليلة من مبدعينا الكبار؟ وهل يكفى هذا الاطلاع لينتج لنا أبياتًا من الشعر المتفرد والآسر؟ أم ينبغى عليه أن يكتب ويحذف ويجرب.. ويكد ويناطح اللغة ومعمارها.. ويغوص فى سراديبها وأسرارها حتى ينكشف له الغيب الفنى؟
الأمر نفسه ينطبق على من يتصدى لكتابة رواية، إذ عليه أن «يذاكر» جيدًا أهم ما توصل إليه الروائيون فى العالم، ثم يشرع فى خوض تجربته الخاصة، فتعترضه مشكلات البناء والزمن والحوار والحبكة، فيجرب هذه الطريقة، ثم يكتشف أنها لا تصلح، فيدخل فى ممرات أخرى، ويتوغل فى دروب مغايرة، ولا يكف عن الحذف، وإعادة البناء، وهكذا حتى يسيطر على عمله.
باختصار.. الفن الجميل صنعة كبرى، ينهض فوق موهبة قد تكون محدودة!