اختفت كذبة إبريل فى مصر هذا العام.. لأول مرة فى حياتى أحاول أن أتلقى مثل كل عام هذه الطرفة التى يعرفها العالم كله، ولكنى فشلت هذا العام.. لم أجد الدعابة المصرية المميزة التى تخلط العام بالخاص بالمشاكل العربية بالمشاكل الاقتصادية بالهموم السياسية.. وهذه الظاهرة جعلتنى أعيش فى حيرة وسؤال ملح: هل تغيرت الشخصية المصرية التى تتسم بالسخرية والتهكم؟ حتى فى أحلك حالات الوضع الاجتماعى.. كانت تتفجر النكات اللاذعة فى كل العهود المصرية.. وعرف الحكام النكتة.. بل إن الرئيس الخالد جمال عبدالناصر كان يتابع هذه النكات، وإذا تأخرت سأل عن ذلك، وكان يعتبر هذه النكت رسم قلب وعقل للشخصية المصرية.. وبعد قرارات التأميم وعلى رأسها تأميم شركة قناة السويس القرار الذى هز العالم ورفع أسهم عبدالناصر سياسيا واجتماعيا، جاء أول إبريل بعد هذه الواقعة وكل الشعب منفعل بحماس لهذا الحدث العظيم، وانتشرت شائعة أن عبدالناصر أمم نهر النيل.. وبعد نصر أكتوبر 1973 - انتشرت فى أول إبريل 1974 - شائعة أن السادات سيعيد إلى القاهرة الخبراء الروس الذين طردهم قبيل الحرب.. وبرغم أنها كانت كذبة إبريل فإنها أثارت جدلاً وكانت بمثابة أزمة أغضبت السادات وقتها فى وقت يحتفل فيه مع المصريين بنجاحنا الساحق فى العبور.. وعالمياً.. كانت هناك مفارقات مدهشة بعضها شديد القسوة مثل إعلان وفاة هنرى كيسنجر عام 1975 وهو أحد نجوم السياسة العالمية وليس الأمريكية فقط وكان داهية سياسية وليس مجرد وزير خارجية أو مستشار.
وتجىء شائعة أول إبريل لتكون المتنفس الأساسى لشعب ما أو قارة.. ولكن الأخبث أن تصبح هذه الشائعات تصفية حسابات بين الشعوب المعادية لبعضها البعض، فالحرب الباردة بين أمريكا وروسيا أو الاتحاد السوفيتى السابق مرت بمراحل عجيبة، أو لنقل كل المراحل والاحتمالات ما بين الحرب النفسية وما بين الحرب الجنسية أو حروب المخدرات.. أو غير ذلك، وكانت كذبة إبريل أحد هذه الأصداء.. فى الستينيات انتشرت شائعة أمريكية من بين أشياء كذبة إبريل مفادها أن هناك حربا قوية بدأت تشتعل بين الاتحاد السوفيتى وبين الصين بسبب البترول.. ولكن الذى غذى هذه الشائعة بعض الخبثاء من الولايات المتحدة الأمريكية وقد يكون للمخابرات الأمريكية تدخل فى ذلك.. ومر إبريل وماتت أوراقه إلا أن شائعته لم تمت.. وهكذا فإن الشعوب تستغل هذه الشائعات لتبادل الكراهية أو إشعال الحروب.. أو على الأقل نشر حقائق مكذوبة لا يمكن أن تصنعها وسائل أخرى غير النكتة أو كذبة إبريل، ولكن فى مصر كانت كذبة إبريل مصدرا للمزاح والضحك الطريف بعيدا عن الأزمات أو صنع المناورات والكراهية مع أحد ضد أحد آخر، وحتى حينما عرفت مصر النكت السياسية اللاذعة لم يكن وراءها أى حروب أو خديعة أو تطفل أو صنع حروب.. كل ما فى الأمر كان مجرد دعابة.. عرفناها منذ سنوات طويلة، إلا أننى لم أسمع نكتا سياسية منذ سنوات، حتى منذ قبل ثورة 25 يناير لم نسمع نكتا ساخرة منذ هذا الوقت، وسمعت من المهتمين بهذا الأمر أن عدم الاستقرار الذى لاحق المصريين فى هذه السنوات وفوضى الشوارع وعدم تحقيق الأمن سريعا، جعل من الصعب الضحك وتبادل النكات، ولا أعرف من هم صناع هذه النكت حتى صناع الكاريكاتير السياسى أو الاجتماعى كيف يتفاعلون مع الأحداث وهم فى حيرة مما كان يحدث فى هذه السنوات التى اتسمت بالعشوائية والتخبط السياسى.. وبعد ثورة 30 يونيو.. بدأ الساخرون يطمئنون على وطنهم.. وعلى سلامة أرضهم.. وعلى مستقبل مصر، وبدأ الساخرون يعيدون ترتيب أوراقهم ووضع النقط على الحروف.. ولكن فى النهاية لم ترجع النكت إلى مصبها الزاخر الملىء دائماً بأصداف وكنوز.. ولهذا لم ترجع السخرية إلى سابق عهدها.. وخسرنا دعابة أول إبريل.. وإن كان العالم كله استمتع بها.