تنظر إلى مبانى صنعاء والمدن اليمنية فتعرف أن للإنسان قدرات بلا حدود.. الارتفاعات الشاهقة بدون خراسانات والألوان المبهجة والزخرفات اللانهائية التى تأخذ بالألباب وتبهج القلوب وتفنجل العيون! وتمضى فى الأسواق لتتذوق العنب والزبيب والعسل وتأكل لحم الضأن وتحلى بالموز المغموس فى العسل الأبيض.. وتجلس فى المقيل بعد تناول الطعام وتجاور الجلوس متقابلين وبينهم مسافة فاصلة ممتلئة باللون الأخضر الزيتونى، حيث حزم القات تنثر ويتم قطف الأوراق الغضة لتمضغ قليلا ثم تدفع إلى جانب الفم كمية وراء كمية حتى ينتفخ الصدغ فيما يتم مج العصير القلوى، حتى يستحيل الاستحلاب فتتفل البقايا فى وعاء «مبصقة» تكمن تحت الطاولة المنخفضة.. فإذا اشتد عليك الأثر تم الإطفاء بمياه غازية أو «بالشاى الأسكتلندى».. أى «الويسكى».
يؤدى القات إلى تنبيه شديد للجهاز العصبى وخاصة مراكز التواصل بالكلام والشعر، ويستمر التنبيه حتى ترهق تلك المراكز فيسود صمت ويتم الإطفاء والانسحاب فى صمت من المكان.
وإذا سألتنى حضرتك: هل جربته؟ أقول لك: نعم وفى مجلس شيخ مشايخ قبيلة حاشد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.. كما جربته فى مجالس كبار المثقفين والشعراء بدون ذكر أسماء، لا لشىء حتى لا أنسى بعض من تكرموا فأكرمونى.
وقد استضافنى كثير من الشخصيات المرموقة ثقافيا وأكاديميا، وأيضا سياسيا، وأذكر أننى زرت مجلس الشيخ الأحمر ثلاث مرات فى رحلات منفصلة، وكانت الاستضافة الأولى بعيد منتصف الثمانينيات، حيث ذهبت مع الصديق المهندس عبدالحكيم جمال عبدالناصر الذى لم يقترب من تخزين القات لحضور حفل تكريم اسم الزعيم الخالد لدوره التاريخى والحضارى فى اليمن المعاصر، وتكريم بعض القادة العسكريين الذين ساهموا فى الحرب هناك وأسماء بعض الشهداء، وكان معنا فى الرحلة ذاتها الفريق أول عبدالمحسن كامل مرتجى، والفريق أنور القاضى، وابن الشهيد الفنجرى، والشهيد المسيرى.. ولا أبالغ إذا قلت إن الشعب اليمنى فى صنعاء عندما عرف بوصول ابن جمال عبدالناصر خرج فى مواكب هائلة إلى المطار، وكانت السيارة تسير ببطء شديد وتتوقف عن السير أحيانا لوقت طويل، بسبب اندفاع الناس لرؤية الضيف ومصافحته، وتم إهداء أعلى وسام يمنى لاسم جمال عبدالناصر وأوسمة رفيعة لآخرين فى احتفال مهيب تم فى القصر الرئاسى بحضور رئيس الجمهورية.
ودعانا الشيخ عبدالله الأحمر للغداء فى منزله، وفور وصولنا ونزولنا من السيارات، إذا بطابور استقبال من الرجال اليمنيين يحملون خناجرهم ويرقصون، ثم إذا بعشرات الخراف تذبح أمامنا أو «تحت أرجلنا» احتفاء ومحبة.. وأراد مضيفنا أن يحدثنا فى جلسة خاصة ودخلنا غرفة جلوس ملحقة بالمقعد الكبير، ثم أخذ يحكى عن الزعيم عبدالناصر وعن حبهم له رغم أى شىء.
وفى تلك الرحلة دعينا للسهر فى مجلس أبى الأحرار اليمنيين القاضى الأكبر عبدالسلام صبرة، وذهبت وعبدالحكيم متأخرين قليلا، حيث أفسحوا له مكانا فى صدر المجلس على يمين القاضى الأكبر وبجوار وزراء وقادة عسكريين.. وجلست فى أقرب مكان، ولفت نظرى أن من جلست بجواره يرتدى جلبابا أبيض وعلى رأسه عقال وغترة، ثم آخر يرتدى بدلة أفرنجية كاملة.. والمجلس كبير ممتد لحوالى خمسين مترا بالطول، وفيه ما يقترب من مائة وخمسين ضيفا.. وكان الحوار قد بدأ، ويديره الصديق الشاعر والأكاديمى المعروف الدكتور عبدالعزيز المقالح الذى قال إنه بمناسبة زيارتنا فإن موضوع الجلسة هو «الصحافة العربية.. واقعها ومستقبلها».
ونكمل الأسبوع المقبل..
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
شىء محزن .. هكذا السياسه والاطماع حولت اليمن السعيد الى بلد تعيس يفتك بابنائه وخيراته
بدون