«مثلى فى النَّبيِّينَ كمثلِ رجلٍ بنى دارًا فأحسنَها، وأَكملَها، وأجملَها وترَكَ منْها موضعَ لَبِنةٍ، فجعلَ النَّاسُ يطوفونَ بالبناءِ، ويعجبونَ منْه، ويقولونَ: لو تمَّ موضعُ تلكَ اللَّبنةِ، وأنا فى النَّبيِّينَ موضعُ تلكَ اللَّبنةِ»
«سنن الترمذى»، هكذا وصف النبى، صلى الله عليه وسلم، نفسه وبين حاله ومكانه، بالنسبة لباقى إخوانه الأنبياء، عليهم جميعا أزكى الصلوات والتسليمات، «لبنة».. جزء من بناء من متكامل تتم حسنه وتكمل قوامه، لكنها لا تقوم وحدها بدون باقى البناء، ولا يتم البناء بدونها، هذا الحديث رغم ما فيه من التواضع المبهر والذى هو ليس بجديد على نبينا، صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن النقطة التى أود التركيز عليها فى هذه السطور هى تلك القيمة التى أبرزها النبى من خلال هذا الحديث وغيره، قيمة التكامل والتضافر والتعاضد أن يدرك المرء أن عليه أحيانا أن يكون لبنة ليتم البناء.. أن يكون جزءا يعضد قيام الأعمال..
وأن هنالك أشياء لا تنهض إلا بالشراكة والتعاون، وأن الحياة لا تقوم عليه وحده «هارون أخى اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى»، «وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءاً يصدقنى»، هكذا صرح نبى الله موسى، عليه السلام، بأن علة مطلبه بإشراك أخيه هارون فى أمره وإرساله معه ردءا أنه أفصح منه لسانا وأيضا بخلاف تواضع سيدنا موسى وتجرده المبهر فإن فى هذا المشهد إشارات وضيئة، أعتقد أن من أهمها حرص موسى على تمام الأمر وتفانيه وصدق رغبته فى بلوغ الرسالة إلى القلوب والعقول والإفهام، به أو بغيره.. من هنا آثر أن يتقدم الأكفأ والأقدر على البيان والتبليغ بجميل اللفظ، وواضح المعنى وفصيح اللسان، لذا قالها وبتجرده الرائع أصل تلك القيمة العظمى، قيمة الشراكة والمؤازرة والتكامل والتعزيز.. تلك الكلمة التى قالها الله فى سورة «يس» يصف حال الرسولين الذين أرسلهما إلى قرية فلما كذبوهما عزز الله بثالث «إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ» تأمل مرة أخرى اللفظ القرآنى «فَعَزَّزْنَا». لم ينقص من قدر هذا الرسول الثالث أن يوصف بأنه ضمن تعزيزات، ولم يمنع وجود تلك التعزيزات أن يأتى فى الآية التى تليها رجل من أقصى المدينة يسعى لا لشىء إلا لمزيد من الإعانة والتعزيز للرسل الثلاثة، ذلك لأنه كان يدرك تلك القيمة ويعلم معنى التكامل والتعزيز، وفى سورة الكهف لما طُلب من ذى القرنين أن يجعل سدًّا بين القوم وبين أعدائهم لم يسارع للتنفيذ، رغم قدرته على ذلك وهو الذى أوتى من كل شىء سببًا لقد قال لهم وهو المُمَكَّن القوى:
«فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما». «فأعينونى».. وهل يحتاج من أوتى من كل شىء سببا لعون؟! إنها القيمة التى أتحدث عنها، لقد أشركهم معه وغرس فيهم قيمة العمل والبذل، ثم هو لم يكتف بذلك، وما زال بهم حتى علمهم صناعة سبيكة الحديد والنحاس، وأطلعهم على سر بناء السد المتين، الذى يصمد ويقوى على حجز قوم يأجوج ومأجوج. يمكنك أن تقول إنه لم يعطهم سمكًا، ولكنه علمهم كيف يصطادونه بأنفسهم، وكذلك المتجرد ليست قضيته أن يظل الأتباع عالقين به لا يتحركون إلا بأمره، ولا يرون فى الكون غيره فلا يتمحورون إلا حوله ولا يدورون إلا فى فلكه، وإنما يعنيه أن تكون لديهم القدرة على العمل والحركة والتغيير والبناء. به أو بدونه.. فهو فى النهاية مجرد لبنة.. لبنة فى بناء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة