قبل أن يخرج من قالوا إن «أبو تريكة» خط أحمر، لاحظت أن كثيرين ممن يظهرون فى النقاش العام على شاشات التليفزيون يستخدمون كلمة خط أحمر فى نقاشاتهم إلى حد لفت نظرى، وجعلنى أتساءل لماذا نستخدم كلمة خط أحمر بشكل زائد فى خطاباتنا. ما يبدو أنه ممكن لتفسير تلك الظاهرة هو أن الاستخدام المفرط لكلمة خط أحمر تعنى غياب المفهوم الحقيقى للمعنى الحقيقى لمن يستخدمها، أو أن مفهوم الخط الأحمر غاب إلى حد أن كل من يستخدم كلمة خط أحمر تعنى بالنسبة له ما يعتبره هو خطا أحمر له، أى أنه تعنى شيئا ذاتيا بالنسبة لمن يستخدمها، وبالتالى فقد أصبح لدينا عدة مفاهيم ملتبسة لمعنى الخط الأحمر، أو أن كلا منا أصبح لديه ما يعتبره خطا أحمر بالنسبة له.
الخط الأحمر يعنى الخط الذى لا يمكن لأحد أن يقترب منه أو أن يتجاوزه، وهو بهذا المعنى يبلغ معنى رمزيا يصل للقداسة، فالدين خط أحمر بلا شك لمعتنقيه، والسياسات العليا أو ما يطلق عليه «high politics»، وهى سياسات الأمن القومى العليا التى تعلو على برامج الأحزاب والتصورات المتنافسة حول البرامج، ذلك أن السياسة العليا لا موضع للتنافس فيها فهى من المعلوم من السياسة بالاضطرار، أى لا يمكن الخلاف بشأنها أو الفذلكة والتفلسف حولها إلا بالقدر الذى يزيد الأمة والمجتمع تمسكا بها، ويجعل منها أكثر وضوحا وشفافية ورسوخا فى ضمير الناس ووعيهم، فالنيل على سبيل المثال وحماية منابعه هو بالنسبة لحياة المصريين خط أحمر، لا يمكننا الموالسة أو الإغضاء بشأن تأمينه، ووحدة الجيش المصرى هى سياسة عليا لا يمكن أن تكون موضعا لتنافس سياسى، فجيش مصر يجب أن يبقى موحدا، وأن يكون قويا قادرا على حماية وحدة مصر وترابها الوطنى، ووحدة ترابنا الوطنى المصرى هو أمن قومى، وقوة الدولة المصرية وبقاؤها لا موضع للاختلاف عليه، ولكن يمكننا أن نختلف مع النظام وحوله فيما يتعلق بسياساته وخططه.
فكرة الهوية والولاء، أحد الأسئلة المهمة للإنسان، فتعريفى لذاتى من أكون؟ ولمن يكون ولائى؟ هى أسئلة مصيرية. ولاشك أن المصريين بعد الثورة سقطت وسائل الضبط الاجتماعى القديم التى كانت سائدة قبل الثورة، فالقوانين سقطت والأعراف سقطت والعادات الاجتماعية لم تعد لها نفس القوة القديمة والنظام سقط بالطبع، وقامت ثورتان ورفعت شعارات وولاءات متنوعة ومتعددة، وانفتحت وسائط اجتماعية وانخرط الناس فى استقطاب حاد وعنيف بسبب التحولات العنيفة والحادة التى شهدتها مصر ويواجهها الإقليم كله. لا ريب أن الجديد لا يزال بعد لم ننجزه حتى يمكن الوثوق به لا على مستوى السياسة ولا على مستوى الأمانى والآمال التى كنا نتوقعها، وفجوة التوقعات بين ما كنا نحلم به وبين ما يقع هائلة وكبيرة، والشباب لكل منه عالمه الافتراضى، وحلم الهجرة بالنسبة إليه يكبر، لأنه يحلم بوعود لم تتحقق فى بلده. نحن أمام إنسان مصرى مختلف، ثوابته تعرضت للاهتزاز، ولذا نجد صرعات ذات طابع عدمى كانتشار الإلحاد والإرهاب وتفشى خطابات الإحباط واليأس وغياب الأمل، وخطابات نقد الدين والكتب المقدسة والهجوم على التراث، وإزاء فقدان الثقة بالمثال والنموذج فى الأفكار فإننا ذهبنا نتلمسها عند الأبطال المخلصين، فتمسك بعضهم بالرئيس، وبالغوا فى ذلك كمخلص، وتمسك الإخوان بجماعتهم ككنيسة مقدسة، وتمسك الرياضيون بـ«أبو تريكة» ومحمد صلاح وغيرهم. أى أننا نعود القهقرى للبطل المخلص الذى يمثل الخط الأحمر الذاتى لكل منا، ولا نعتمد على القانون أو المؤسسات أو الأفكار الكبرى كخطوط حمر، خطوطنا الحمر تتمسك بلاعب كرة أو فنان أو موسيقى أو بطل سياسى أو جماعة دينية، وهو ما يعنى بكل تأكيد تراجع ثقتنا فى الغيب، وبحثنا عن مثال ملموس ومشهود حتى لو كان فى ذلك عودة بدائية للتعلق بالأشخاص أكثر من التعلق بالأفكار الكبرى.