الدولة مطالبة بالاستثمار فى الفنون، لا بهدف الربح، ولكن لحماية الوجدان من «غارات» الذين يسعون لتجريف روح البلد، مطالبة بدعم السينما والمسرح والإعلاء من شأن الموهوبين، إذا كانت تريد فعلا مقاومة الإرهاب،
مطالبة بفتح الطريق أمام الأصوات الجديدة فى فن تلاوة القرآن والغناء، عليها ألا تترك هذا الفن فى أيدى الموظفين والآلاتية ورجال الأعمال، كتبت وسأكتب عن هذا الأمر، لأن الغناء منذ منتصف القرن التاسع هو الذى ساعد على خلق لغة مشتركة باعتباره «معرفة»، ولا يفرق بين الطبقات ولا بين الأجيال ولا بين المناطق الجغرافية، ليس فنا تحتكره النخبة، هو فن يلبى حاجة الجماعة إلى الغناء معا، وهذه الحاجة سلوك غريزى صاحَب وجود الإنسان على الأرض، والغناء المصرى يحمل سمات وخصائص المصريين، فهو حزين وبسيط وشجى، يعتمد على البداهة والفطرة أكثر من اعتماده على «الشطارة»،
وإذا أحس المتلقى بصدق نوايا العاشق «حتى لو كان خائبا» أحبه وغنى معه، الغناء قرب بين الناس بعد أن اتفقوا على بديهيات لم يتحدث أحد فيها، وجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون معا ويعرفون خبايا بعضهم البعض، حتى لو باعدت المسافات بينهم، وفى اللحظات العظيمة تستطيع جملة موسيقية واحدة جمع الناس، وتشعر كل واحد على حدة بأنها تخصه وحده، مثل ما قدمه سيد درويش فى ثورة 1919،
أو كوكبة يوليو أمثال الطويل والموجى وبليغ ومراد منير، بالإضافة إلى العابرين للأجيال مثل عبدالوهاب وزكريا والقصبجى والسنباطى والشريف وفوزى وصدقى ومكاوى، تستطيع مع هؤلاء أن تتذكر لحظات من تاريخك وتاريخ أهلك بفضل أغنية كتبت ولحنت بروح محبة وصادقة، تشعر أن طاقة روحية جبارة دفعت الجميع لإنجاز العمل، منذ منتصف السبعينيات اكتشف الآخرون أن غناء مصر وسطوة مدرسة تلاوتها العظيمة وازدهار السينما قد تهدد نفوذهم الدينى والسياسى والثقافى فى المنطقة، وتفننوا فى تدمير الروح الجماعية الخلاقة المنسجمة منذ آلاف السنين، تم ضخ أموال طائلة لكى لا يغنى المصريون على راحتهم، من خلال شركات الإنتاج والفضائيات بعد ذلك، والنفخ فى نجوم لا يملكون أصواتا عظيمة، احتكروا أصواتنا الجميلة، لا لكى تغنى ولكن لكى لا تغنى،
تم إبعاد الملحن عن نفسه وعن الناس وعن زمنه، الملحنون الشباب الذين لم يلتفت إليهم السوق أصابهم الإحباط، فتشابهت ألحانهم وبالغوا فى إحساسهم بالظلم، وعندما يغنون للوطن بعيدا عن الاحتفالات الحكومية، تشعر بإخلاصهم ونقائهم وحسن نواياهم، ولكنك تكتشف أنهم معنيون بالسياسة أكثر من جماليات الموسيقى، ولم يفكروا فى حاجة الناس إلى من يفك شفرة ما يدور فى الوجدان موسيقيا، لأن الرغبة فى الغناء موجودة ومكبوتة، ولكن معظم الملحنين المعاصرين يعنيهم تلبية متطلبات السوق «أو النخبة» أكثر من أى شىء آخر.