فى هذه الليلة عدنا إلى بيت «ألبرتو» متأخرين من بار «كانيكال»، فلم يكن أحد من العائلة فى انتظارنا، وبدا أن الجميع قد آووا إلى فراشهم، فيما صعدنا إلى سطح البيت فوق درج رخامى صغير ورفيع الدرجات كما أنه ليس له سياج.. كان الدرج يتوسط صحن البيت، كانت الغرفة وحيدة فوق سطح البيت، وإن بدت من الخارج أكبر قليلًا من المألوف، لكننى حين دخلتها خلف «ألبرتو» لاحظت فى الإضاءة الخافتة التى تتسلل من النافذة بأن الغرفة ضيقة من الداخل، فلم يكن بها سوى سريرين لا يكفى الواحد منهما إلا لشخص واحد، بينهما مقعد وثير، وبالرغم من ذلك فقد بدت نظيفة جدًا، كما كانت النافذة مفتوحة مما سمح للهواء البارد فى الدخول إليها، ومنحها رائحة البحر التى ربما تكون مشبعة بالرطوبة.
ألقى «ألبيرتو» بجسده فوق أحد السريرين فيما جلست أنا على حافة السرير الآخر فى استعداد لخلع حذائى، وفى مثل هذه الليالى التى يجد فيها أى بحار نفسه وقد شرب كمية لا يستهان بها من النبيذ، فإن عليه أن يخضع لأمر النشوة الخفية التى تتسلل إليه، فتدفعه لاسترجاع ما مرت به من أحوال فى ليلته، لكنّ إحساسًا غامضًا بوحشة غير اعتيادية يهاجمه، ربما يكون هذا بفعل التفكير المفاجئ بحالة الغربة التى وجد نفسه فيها، فها هو يجلس على حافة سرير صغير فى غرفة ضيقة ينساب من نافذتها الوحيدة المطلة على البحر هواء خفيف ساقع نوعًا ما، مثل ذلك الهواء الخفيف الساقع الذى ينساب من جهاز التكييف فى صالة كافتيريا «استيريا» المواجه لسينما «مترو» فى شارع «صفية زغلول» بالإسكندرية، ها هو الآن يتذكر شوارع الإسكندرية التى كان يعرف كل شبر فيها، فيزداد إحساسه بوحشة غامضة لا ينقبض لها صدره بقدر ما تحدثه فيه من نشوة، حينما يباغته وجه أمه، لكن سماعه نقرات خفيفة على الباب قطعت علىّ الذكرى، نظرت باتجاه سرير «ألبرتو» فوجدته قد استغرق فى نوم عميق، كيف لم أنتبه إلا هذه اللحظة إلى ذلك الباب المغلق الذى يتوسط الحائط المواجه للسريرين؟.. سمعت نقرات خفيفة مرة أخرى، هممت بأن أقف لأفتح ذلك الباب، تملكتنى الدهشة عندما رأيت باب الغرفة الذى كنت قد دخلت منه يفتح برفق، تنبهت إلى أن الغرفة لها بابان، ما هى إلا لحظات قصيرة حتى دخلت العجوز «جوديت» وهى تتوكأ على عصا رفيعة لامعة بالرغم من عتمة الضوء التى يخففها بشكل نسبى، ذلك الضوء الشفاف الذى ينساب من نافذة الغرفة، كانت هناك ابتسامة خفيفة على وجه «جوديت» الأبيض الذى بدا مضيئًا، وعلى غير العادة لمثل من كان فى سنها، فبدت وجنتاها متوردتين بالرغم من تلك التجاعيد التى نحتها أزميل الزمن فوق وجهها، لكنه على أية حال وشت ملامحها بجمال قديم وطيبة حقيقية، أو ربما يكون هذا بفعل ذلك الإحساس المبهم بالمودة تجاهها الذى خالجنى فى هذه اللحظات.. جلست «جوديت» على الكرسى المجاور للسرير، ومدت يدها وربتت على ظهر كفى الذى كنت أستند إليه وهمست باللغة الإنجليزية: «كنت أعرف أنك لن تستطيع النوم»، ولم تنتظر تعليقًا منى، وتابعت كلامها فى رقة بما يشبه الهمس:
«هذا هو حال البحارة الغرباء الذين يحضرهم ألبيرتو دائمًا معه لزيارتنا»، طبطبت على ظهر كفى مرة أخرى وسألتنى: «هل أنت جائع؟» قلت: «أكلت كثيرا مع ألبيرتو، شكرًا لك»، اعتدلت «جوديت» فى جلستها واستندت على العصا الرفيعة اللامعة ووقفت منحنية قليلًا وهى تمسك بذراعى لتوقفنى برفق قائلة: «إذن هذا هو الوقت المناسب، تعال معى». جذبتنى باتجاه الباب المغلق، ومدت يدها وأدارت المقبض وفتحت الباب، جذبتنى إلى الداخل: كانت هناك غرفة واسعة نوعًا ما ملحق بها حمّام صغير، أضاءت «جوديت» المصباح الذى يتدلى من سقف الغرفة، كان هناك رجل عجوز مبتسم مستلقٍ على ظهره فوق سرير متوسط الحجم مفروش بفراش قطنى بلون وردى، لم ينظر الرجل العجوز إلينا وهو يتحدث باللغة الإنجليزية: «هل تتحدث اللغة الإنجليزية جيدًا يا ولدى؟»، لم أتنبه إلى أن الرجل العجوز يسألنى إلا عندما أمسكت «جوديت» بذراعى فى رقة لتنبهنى.