إن انهيار الأمل فى التغيير للأفضل وتحطم أى احتمالية للارتقاء، يعد من أخطر ما يمكن أن يحدث فى مجتمع على الإطلاق.. تخيل أن تعيش فى مجتمع يحكم عليك بالمكث فى القاع إلى الأبد، وينفى عنك حقك فى الطموح وتحسين أوضاعك حتى لو كنت موهوبا مستحقا لذلك الرقى المنشود. تخيل أن يتصور البعض أن لهم الحق فى تقييمك وتحديد مصيرك بناءً على عوامل خارجة عن إرادتك وليست من كسبك بينما يفسحون الطريق منحنين باحترام لآخرين لمجرد أنهم ورثوا الاستحقاق المزعوم كابرا عن كابر. إنها الفكرة الطبقية المقيتة والكفيلة بنخر المجتمعات من جذورها من خلال غرس الأحقاد التى ترتوى شجرتها الخبيثة بمياه الظلم الآسنة لتخرج ثمار الكراهية العفنة التى تسمم تلك المجتمعات المنكوبة بتلك الآفة. لأجل ذلك أرى أن وزير العدل المستقيل أو المقال له فضل وجميل فى أعناق المصريين ربما لم ينتبه إليه الكثيرون فى خضم الانشغال باستنكار تصريحاته حول عامل النظافة والتى اكتظت بها وسائل التواصل الأسبوع الماضى، هذا الفضل والجميل يتلخص فى كلمة واحدة.. الصراحة، والصراحة رغم أنها ليست راحة خالصة كما يزعم البعض فإنها لا تزال جميلة ولها رونقها الذى لا تنفيه قسوتها، هى قاسية بلا ريب، لكنها مطلوبة ولعلها الحسنة الكبرى التى اقترفها الوزير المستقيل، لقد كان صريحا للغاية لكن كالعادة نسى المصريون ما حدث وتشاغلوا عن شكر الوزير الصريح بأحداث آنية أخرى وقضايا يومية جديدة كما هو دأبهم منذ أعوام، حيث يستيقظون كل صباح، متسائلين بلسان الحال عن الموضوع الجديد الذى «سيهرون» فيه اليوم! لقد نسوا موضوع ابن عامل النظافة أو تناسوه وكأن باستقالة الوزير أو إقالته قد انتهت المشكلة وصارت الحياة جميلة ورائعة وأصبح ابن عامل النظافة محاسبا على اجتهاده ومجازى باستحقاقه وليس بمهنة والده، والحقيقة أن المشكلة لم تنته ولن تنتهى أبدا بمثل تلك المسكنات، لن تنتهى باستقالة شخص أو شخصين أو حتى مائة شخص، لن تنتهى إلا باستقالة فكر طبقى توريثى متجذر استطاعت الأمم والشعوب المتحضرة أن تتخلص منه وتقيله قبل أن تلتفت للأشخاص والأسماء والمناصب، ذلك الفكر الاستعلائى المقيت والظلم المجتمعى الذى طالما حاربه ديننا وفنده كتاب ربنا خصوصا فى سورة الزخرف «وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» هكذا كانت العلة التى ادعاها مشركو قريش ليبرروا رفضهم لاتباع النبى والتى أبرزتها سورة الزخرف، لكن هل كانت تلك هى المشكلة حقا؟ هل كونه ليس من زعماء المجتمع يعد مبررا كافيا لرفضه وجحوده؟.
الحقيقة أن المشكلة كانت فى نمط الفكر الذى نتحدث عنه والذى لا يلتفت انتباهه إلا للمظاهر المبهرة ولا ينجذب بصره إلا لزينة براقة أو زخرف لامع ولا يقيس إلا بمقياس العظمة الدنيوية والمكانة المادية والمنصب الضخم والنسب الفخم والثراء الفاحش والنعيم الزائل وحسب.. «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ» هل هم من يقررون ويقسمون رحمة الله؟! هكذا دحض القرآن حجتهم الطبقية وأطاح بشبهتهم المادية بكل بساطة وعمق، وهكذا ينبغى أن يُدحض نفس المنطق المريض فى كل زمان ومكان، منطق الحكم من خلال الظاهر وهو بالمناسبة منطق منقوص فاسد.. من قال إن أهل الأحساب والأنساب والمناصب والأموال هم الأعظم والأفضل؟ من قال إن معيار القوة والثراء والحسب والنسب هى المعايير الوحيدة للحكم على الأشخاص؟ كم من ابن عامل نظافة وابن حارس عقار وابن مُسلِّك بالوعات سبق فى الدنيا بعلمه وفهمه وبإذن الله يسبق فى الآخرة بتقواه وهمته.. وقد يرتفع فى الدنيا، لكن ذلك فقط إذا استقالت الفكرة الفاسدة قبل استقالة حامليها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة