تقصير منى إن لم أتابع ما كتب من أدب مصرى عن ما يمكن أن أسميه «المرحلة النفطية» ذلك المدى الزمنى الذى تعاظم فيه سفر أبناء المحروسة للبلاد العربية المنتجة للنفط، وهى بالأساس العراق والسعودية والإمارات والكويت وعمان والبحرين ويضاف إليها الأردن، الذى استقبل بدوره عددا لا بأس به من العمالة المصرية، رغم أنه غير منتج للنفط. ولا أعرف هل كتبت روايات أو قصص قصيرة عن ملامح ومضامين تلك المرحلة مثلما كتبت بعض الأبحاث الأكاديمية عن هجرة المصريين إلى تلك المنطقة، وإن اتسمت بأنها قليلة العدد ولم تجد الصدى المناسب. وربما كان كتاب محمود السعدنى عن الولد الشقى فى المنفى يعد عينة من ذلك الأدب، لأنه تضمن أجزاء حكى فيها صاحبه عن تجربته فى العراق والكويت والإمارات وبأسلوبه الساخر الطريف الذى يتخذ من التجربة الشخصية مرتكزا دون أن يصل إلى ما نسميه «حالة الدراسة» أو البناء الروائى المتكامل بالمعنى التقنى للكتابة الأدبية، قلت فى مقال سابق، إننى وصلت الشارقة ضيفا على الشيخ سلطان بن محمد، وبدأت فى البحث عن عمل ولن أنسى أن الرجل قدم عرضا فى بداية وجودى وهو أن أسس شركة للأعمال العامة أديرها بتمويل منه، ومن فورى اعتذرت وقلت، إننى لا أعرف شيئا عن عالم المال والأعمال وإننى أفضل عملا أجيده.. وابتسم هو وأشار إلى نوعية مصرية تريد عملا بأجر آخر الشهر ولا تحب أية مغامرة من أى نوع.. وبالفعل ذهبت بتوجيه منه إلى وكيل وزارة الإعلام الأشهر آنذاك - أكتوبر 1979 - عبدالله النويس فى أبو ظبى ودخلت إلى مكتب سكرتارية السيد الوكيل وانتظرت طويلا حتى أذن لى بالمثول بين يديه!!، ووقفت أمام المكتب الفخم، فيما صاحب المكتب يمد ساقيه على طرف بللور المكتب ويتحدث فى الهاتف معطيا نصف ظهره للداخل.. ووقفت مؤدبا أنتظر أن يلتفت.. والتفت بسرعة كانت شبه دائرة لفها بالكرسى الهزاز ولم يلتفت للواقف، وأخذ منديل كلينكس وتمخط، ثم التفت لى وقال: نعم؟!، فقلت أنا فلان، ولم يتركنى أكمل حتى وقف مسلما وقال: اتفضل لقد كلمنى الشيوخ عنك ماذا معك من مؤهلات وخبرة؟!
وأخرجت ما معى، شهادة الليسانس بتقدير جيد مرتفع من قسم التاريخ، وأوراق الدراسات العليا التى تفيد تسجيلى لدرجة الماجستير فى التاريخ وشهادة خبرة عمل بمركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس. وتصفحها حضرته بسرعة، وسأل: بس؟! فقلت: هذا ما لدى، وأعقبها بسؤال آخر: هل لديك أحد فى بلدك يعد لك شهادات أخرى حتى نتمكن من إعطائك وظيفة مميزة؟ والتقطت الإهانة وبلعتها وقلت: ليس لدىّ سوى ما أمامك وهناك أمر ليس فى الأوراق وهو أننى خارج من السجن وموقوف عن العمل فى الجامعة إلى أن استقلت وأننى مغضوب على سياسيا وأن من أرسلنى إليك يعرف كل ذلك!!
والتقط هو مضمون ما أردته فمد يده ومزق قطعة ورق بيضاء وأخذ طرفها وكتب عليه تأشيرة تقول: «إبراهيم راشد المدير العام.. يوجه إلى الشارقة ويعين فى وظيفة مميزة بعقد خارجى»!! ثم مع السلامة. وخرجت، وشاهد أصدقائى صك العقد الخارجى فطالوا السماء بأيديهم، ولكنهم فوجئوا بأننى أقسم أننى لن أعمل مع هذا البنى آدم حتى لو حاأموت من الجوع.. وعدت للشارقة والتقيت صاحب السمو، وأخبرته بما جرى وبقرارى، وعندها دخل إلى الجلسة رجل قصير القامة قمحى البشرة فصيح الملامح، وفور أن عرفه الشيخ سلطان بى حتى احتضنى الرجل، مؤكدا: حمدا لله على السلامة.. نحن فى انتظارك منذ فترة وجلس وكنت أستكمل قصتى مع عبدالله النويس، ومن فوره طلب الرجل من صاحب السمو أن أتحول للعمل معه فى تأسيس جريدة الخليج.. وكان هذا الفارس هو الراحل النبيل تريم عمران تريم، أول سفير للإمارات فى مصر، وابن التجربة القومية الناصرية والعضو القديم فى الطليعة العربية فى فترة الرئيس عبدالناصر.. وبدأت معه وحدى قبل وصول أى مخلوق فى تأسيس الجريدة، ابتداء من البحث عن مكان يصلح صالة للتحرير وأماكن للإدارة وعن مطبعة.. وعن سكن للمحررين الذين سنتعاقد معهم، ووقع معى عقدا بتاريخ الأول من أكتوبر 1979.