كان الأخ الكبير أو الرئيس فى رواية 1948 لجورج أورويل يراقب شعبه عبر شاشات تليفزيونية منتشرة فى كل مكان، لتنقل تحركات وانفعالات أى مواطن فى البيت أو العمل أو الشارع، ويبدو أن خيال أورويل تحقق جزئيا، فكاميرات المراقبة تنتشر فى الشوارع والميادين، وسيتحقق كليا من خلال شبكة الإنترنت التى كان يفترض أن تكون ساحة للحرية واحترام الخصوصية، لكن هذا الافتراض يتبدد، فكلما توسع البشر فى استخدام شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى أصبحت حياتهم الشخصية وأسرارهم وأفكارهم والموضوعات التى تشغلهم تحت سيطرة الحكومات والشركات العملاقة، أنت معروف ومرصود عبر استخداماتك لشبكة الإنترنت سواء فى المنزل أو العمل أو من خلال هاتفك المحمول وحساباتك على البريد الإلكترونى أو وسائل التواصل الاجتماعى، الحكومات ومزودو خدمة الإنترنت أصبحوا على معرفة كاملة وتفصيلية بالمواقع التى تزورها، والمعلومات والأشخاص الذين تبحث عنهم أو تفضل متابعتهم، كل ما تقرأ أو تكتب أو تشاهد معروف ومرصود!! والشركات الكبرى مثل جوجل وياهو وآبل وفيس بوك وغيرها يبيعون للحكومات ولشركات التسويق كل المعلومات الخاصة بك، وصورك الشخصية، وعاداتك وتفضيلاتك فى الشراء أو السفر.. وكل ما تقوم به عبر شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، باختصار أصبحت حياتك الشخصية وحياتى، وأفكارنا وتفضيلاتنا مستباحة، ويمكن لكل من يطلبها الحصول عليها شرط دفع مقابل مالى معقول لمزودى خدمة الإنترنت.
من هنا ظهر اتجاه قوى بين الخبراء والمفكرين يرى أن الإنترنت أصبح خطرا على البشرية، وتهديدا مباشرا على حرية الراى والتعبير والإبداع، لأنه فى غضون سنوات سيصبح من المستحيل للأفراد الاستغناء عن الشبكة، وما تتيحه من خدمات ومعلومات أصبح جزءا من النظام التعليمى والمالى والإدارى فى أى دولة، طبعا ستظل هناك فروق بين الدول بحسب درجة تقدمها.. لكن عمومًا سيصبح من الصعب تماما على الأفراد أن يعزلوا أنفسهم عن الشبكة وما تقدمه من سلع وخدمات، وسيكون من النادر، وربما الغريب، أن تجد مواطنا بدون حساب واحد على الأقل على شبكات التواصل الاجتماعى، ولن تجد هاتفًا محمولا غير مجهز للدخول إلى شبكة الإنترنت والاستفادة منها. معنى هذا كله أنه من المستحيل أن يهرب الأفراد من رقابة وسيطرة الأخ الأكبر (حكومات العصر ومزودى خدمة الإنترنت وشركات الكمبيوتر العملاقة والترفيه ووسائل التواصل الاجتماعى) الذى سيكون قادرا على اختراق كل خصوصيات الأفراد ومعرفة تحركات الأفراد وأماكن وجودهم وسفرهم عبر العالم.
ما العمل إذن؟ وهل يستسلم الأفراد؟ يجيب الخبراء بأن هناك أقلية من البشر لديها قدرة ومؤهلات تمكنهم من مواجهة هذا الحصار من خلال تعلم وتطوير برامج حماية للتهرب من الرقابة بأنواعها ومن حماية الخصوصية، ومن شن هجمات على الأخ الأكبر يمكن من خلالها التعرف على برامجه وخططه للرقابة والهيمنة والاستغلال، على غرار ما يقوم به الهاكرز، ما يكشف عن الجانب الإيجابى لمستقبل القرصنة (الهاكرز)!! لكن تظل هناك أسئلة كثيرة بشأن تلك النخبة المدربة والقادرة على التصدى للأخ الأكبر، وهل ستكون هذه النخبة الجدار الأخير لحماية حرية وخصوصية البشر؟ أم أن الأخ الكبير سيتمكن من التصالح معها واستيعابها أو قمعها؟ ثم هل سيتحول الصراع السياسى والاجتماعى إلى صراع على المعرفة والبرمجة، والبرمجة المضادة فى الواقع الافتراضى وفى فضاء الإنترنت؟.. أسئلة كثيرة لا يتسع لها المقال، لكن أدعوك، عزيزى القارئ، لأن تفكر فيها، فهى قضايا وإشكاليات تشغل العالم وتتصدر كل النقاشات العالمية حول مستقبل الإنترنت ومستقبل البشر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة