على الرغم من كل تلك الشائعات التى أحاطت بالزيارة المرتقبة للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى برلين، فإنه قرر وبشكل قاطع المُضى فى القيام بهذه الزيارة خلال الأيام القليلة المقبلة، لأن ما قام البعض بترديده من أن برلين لم تعد ترغب فى استقبال الرئيس أمر يتجافى مع الحقيقة تمامًا، حيث إن تلك الشائعات يقف خلفها قادة الجماعة الإرهابية، وحلفاؤهم فى الداخل والخارج الذين اعتادوا ترويج المغالطات والأكاذيب كلما تلقى الرئيس دعوة لزيارة أى بلد، لأنهم على يقين بأن هذا التحرك المصرى على المستوى الدولى يحرجهم، ويضعهم فى أزمة حقيقية مع جيل كامل من الذين خدعتهم تلك الشعارات البراقة التى طالما تغنوا بها من قبل.
الأمر الذى يدفعنى إلى القول بأن زيارة السيسى إلى برلين فى هذا التوقيت بالذات تشكل مرحلة جديدة للدبلوماسية الهادئة التى ينتهجها الرئيس منذ توليه المسؤولية قبل أقل من عام، وهى دبلوماسية تستند إلى رؤى واضحة الملامح، تسعى نحو تحقيق هدف استراتيجى محدد، هو إعادة الاعتبار لمكانة مصر بين دول العالم، خاصة بعد أن كانت قد تعرضت تلك المكانة لهزات عنيفة ترتب عليها- للأسف الشديد- خروجها شبه الكامل من الكيانات الدولية، بل إننا كنا قد خرجنا من خريطة التوازنات الدولية بالكامل على مدى عدة سنوات مضت، خصوصًا فى أعقاب ثورة يناير 2011.
لذا فإن زيارة السيسى إلى برلين على هذا النحو من القوة والثبات تمثل جانبًا مهمًا فى التحرك المصرى على الصعيد الدولى، ليس هذا فحسب، بل إن أهمية تلك الزيارة تتمثل فى أنها ستكون بالفعل نقطة ارتكاز رئيسية فى تحقيق التوازن المطلوب مع دول الاتحاد الأوروبى الذى كان إلى وقت قريب فى طليعة الدول التى وقفت موقفًا معاديًا، وبشكل معلن تجاه ثورة 30 يونيو الشعبية، وظل هذا الحال إلى أن تبددت الغيوم من سماء العلاقات المصرية الأوروبية، وتكللت بالدعوة التى وجهتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للرئيس عبدالفتاح السيسى لزيارة ألمانيا، والتى نقلها له زيجمار جابرييل، نائب المستشارة، وزير الاقتصاد والطاقة، خلال زيارته إلى مصر لرئاسة وفد بلاده فى المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ خلال مارس الماضى، وسط أجواء انفراجة مرتقبة فى العلاقات بين البلدين، وهو فى تقديرى سينعكس بالإيجاب على علاقة مصر ببقية دول الاتحاد الأوروبى، نظرًا لما تتمتع به ألمانيا من ثقل اقتصادى وسياسى فى هذا الاتحاد الذى لا يمكن بأى حال من الأحوال تجاهله وسط كل هذه التحركات الدولية لتشكيل ملامح التوازنات الإقليمية والعالمية، نظرًا لتشابك وتعقد المصالح بين دول الاتحاد الأوروبى ودول عظمى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، ومجموعة النمور الآسيوية.
ومن منطلق كل تلك الاعتبارات، فإن هذه الزيارة المرتقبة خلال الأيام القليلة المقبلة ستكون بمثابة استخراج شهادة ميلاد لمرحلة جديدة من الوجود المصرى فى قلب أوروبا، أو على الأقل تأتى استكمالاً لخطوات سابقة قام بها الرئيس فى زياراته التاريخية والناجحة شرقًا وغربًا، وبالتحديد فى الصين وروسيا وأمريكا، وعلى الرغم من ذلك فإن زيارة برلين ربما تختلف عن تلك الزيارات السابقة، لأن برلين باعتبارها جزءًا من دول الاتحاد الأوروبى الذى يعد بمثابة الملعب الرئيسى الذى يمارس فيه التنظيم الدولى للإخوان أفعاله المشينة ضد مصر، فأوروبا هى المنطقة التى يتحركون فيها بحرية تامة، إلى جانب تركيا، الحليف الاستراتيجى للإرهاب الدولى، حيث لم يعد يخفى على أحد ما يخططون له، ويرسمون من أجله السيناريوهات التى يكلفون عملاءهم فى الداخل بتنفيذها من أجل زعزعة الاستقرار، وتقويض الركائز الأساسية للدولة، وذلك لتحقيق هدفهم الإستراتيجى، وهو إرباك الحكومة وصولاً إلى إسقاط النظام بالكامل.. وهى مجرد محاولات فاشلة حيث تواجهها الدولة بكل حزم، بل يتصدى لها الشعب المصرى كله، لأن الغالبية العظمى من أبناء هذا الوطن من المواطنين الشرفاء الذين يرفضون تلك الفئة الضالة والمضللة التى لا تمثل إلا جزءًا ضئيلًا من الشعب المصرى الأصيل الذى خرج عن بكرة أبيه فى ثورة 30 يونيو معلنًا رفضه تلك الجماعة الإرهابية التى لا تعرف معنى الوطنية، حيث استباحت حدود الوطن، وفرطت فى كل شىء من أجل تحقيق مصالحها الخاصة التى ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بدول خارجية تسعى جاهدة من أجل فرض سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية.
وعلى الرغم من تلك الأجواء غير المستقرة التى يحاول «الإعلام المضلل» الترويج لها حول الزيارة، والإصرار على التشكيك فى جدواها، فإن هناك مؤشرات قوية تفيد بأن الزيارة ستكون محل تقدير واهتمام من جانب الدولة الألمانية، وهو ما نلمسه بشكل كبير فى البيان الذى أصدره مكتب المستشارة الألمانية ميركل بأن المستشارة تتطلع إلى لقاء السيسى، وذلك فى أعقاب تلك التصريحات «غير المفهومة» من رئيس البرلمان الألمانى الذى قرر عدم مقابلة السيسى بسبب الأحكام القضائية بإعدام قادة الإخوان، والحق يقال فإن التأكيد الرسمى من جانب الدولة الألمانية على استمرار الزيارة قد قطع الشك باليقين، موضحًا أن تلك الشخصيات التى على شاكلة رئيس البرلمان ما هم إلا أدوات تحركها أصابع التنظيم الدولى للإخوان، والتى استطاعت خلال السنوات الأخيرة التغلغل داخل أروقة السياسة الألمانية، ولكنها لا تعدو كونها مجرد وجهات نظر لا تقدم أو تؤخر حينما يتعلق الأمر بمصالح ألمانيا، وعلاقاتها بدول العالم.
وهنا فإننى أسجل إعجابى الشديد بإصرار الرئيس على إتمام الزيارة، وعدم الاستجابة لمطالب بعض وسائل الإعلام بإلغائها كنوع من الرد العملى على التدخل فى الشأن المصرى، عقب صدور أحكام الإعدام بحق قيادات الإخوان، والإعجاب هنا لأن الرئيس قد أثبت للجميع أنه لا يتعامل مع هذه النوعية من الملفات المهمة بردود الأفعال الغاضبة، ولا يحدد تحركاته وفق حالته المزاجية، فهو ومن خلال خبرته الطويلة يقدر الأشياء حق قدرها، ويضع كل موقف فى حجمه الطبيعى، وهذا بالطبع ليس غريبًا على رجل عاش طيلة حياته فى المؤسسة العسكرية المصرية، تلك المؤسسة المشهود لها بالانضباط والوطنية والقدرة على ضبط النفس حتى فى أحلك الظروف، وفى أصعب المواقف.. خلاصة القول أنه رجل يحمل بين ضلوعه قلبًا جسورًا لا يعرف الخوف إلا من خالقه.
واللافت للنظر أن العلاقات الاقتصادية القوية التى تربط بين مصر وألمانيا تعد فى حقيقة الأمر أحد أهم العناصر التى تشكل الضمانة الحقيقية لنجاح زيارة السيسى لبرلين، فحجم التبادل التجارى بين مصر وألمانيا بلغ عام 2014 ما قيمته 4.4 مليار يورو، ليكون الأعلى فى تاريخ العلاقات بين البلدين، منها أكثر من 1.5 مليار يورو صادرات مصرية ونحو 2.8 مليار يورو واردات مصرية من ألمانيا، وهو ما يشير إلى أن الصادرات المصرية لألمانيا بذلك قد ارتفعت للضعف خلال خمسة أعوام، حيث بلغت عام 2009 حوالى 800 مليون يورو فقط.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن حوالى 900 شركة ألمانية تعمل الآن فى مصر، حيث وصل إجمالى حجم الاستثمارات الألمانية فى مصر 2 مليار و430 مليون يورو بنهاية عام 2014، ورأس المال المدفوع منها بالكامل هو 590 مليون يورو؛ لتحتل بذلك ألمانيا المرتبة العشرين لأهم الدول المستثمرة فى مصر.
وحينما أتحدث عن العلاقات بين مصر وألمانيا، فإنه ينبغى أيضاً الإشارة إلى برتوكول التعاون الثقافى الذى تم توقيعه عام 1959 باعتباره الإطار الرئيسى الذى ينظم العلاقات الثقافية المصرية الألمانية، كما تم فيما بعد توقيع اتفاقيتين ثقافيتين عامى 1979 و1981 للتعاون العلمى والثقافى بين الدولتين.
خلاصة القول.. إن يومى الثلاثاء والأربعاء المقبلين سيشهدان تحولًا مهمًا فى العلاقات المصرية الألمانية، ويأتى فى مقدمة تلك التحولات الملف الاقتصادى الذى أراه الملف الأهم فى هذه المرحلة الفارقة فى عمر الوطن، لأن بناء مصر الجديدة، مصر القوية، لم ولن يتم إلا من خلال اقتصاد قوى قائم على ركائز ثابتة، ووفق علاقات متوازنة مع القوى والتكتلات السياسية والاقتصادية الدولية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة