قبل سنوات كان هناك مذيع يقدم برنامجا دينيا على فضائية مصرية، يستضيف أساتذة الفقه والحديث، ويوجه أسئلة المشاهدين لضيوفه ليفتوا فيها، لكن بعد فترة وفى هوجة أرقام الزيرو 900 ظهر إعلان عن المذيع أنه يتلقى أسئلة الجمهور على الرقم المدفوع، ليجيب عنها. وبقدرة قادر تصور أنه يمتلك علما يعطيه حق الفتوى.
وهذا الإعلامى ليس حالة فردية، لكنه جزء من فوضى فتحت الباب للكثير من "الحالانجية" للإفتاء، والحديث فى الدين.
نفس الحالة تكررت مع إعلاميين وإعلاميات انتقلوا من مكان المذيع الوسيط إلى المتحدث فى كل شأن، وكانت شركات الاتصالات تمنح هذه الأرقام للطب والرشاقة.
وخلال 25 يناير رأينا كيف كان بعض الإعلاميين يسارعون لالتقاط صور لهم بميدان التحرير، ويحرصون على استضافة شخوص ممن حصلوا على شهادة ثورى أو ناشط، كان هناك زخات من المتكلمين، يفتون فى شؤون الثورات والسياسة، ما يجب وما لا يجب، وكل منهم لم يختلف كثيرا عن الإعلامى الذى تحول من سائل، إلى مفتى بأرقام الزيرو تسمعية.
ورأينا كيف كان بعض الإعلاميين يريد أن يثبت ثوريته، فيستضيف الأكثر قدرة على الزعيق، وإطلاق الأحكام والشتائم، يرفض هذا ويحدد من يكون وزيرا، ومن يأتى رئيس وزراء. ومع الوقت صدق بعض الإعلاميين أنفسهم، ووجدوا مشجعين ومؤيدين على مواقع التواصل، ونسوا أدوارهم كوسطاء وصناع وعى، وتحولوا إلى خطباء يتكلمون فى السياسة ويصدرون الأحكام. ولا داعى لاستضافة متخصص.
بعض الإعلامين والإعلاميات، كانوا يسارعون للمشاركة فى مظاهرات لم يكونوا يعرفون من دعا لها وما هى أهدافها، ويحرص كل منهم على اتخاذ وضعية التصوير المثلى، وهو يهتف. وأصبح «التوك شوك» بديلا لكل شو.
تراجعت ظاهرة الإعلامى الذى يريد المعرفة، لصالح الإعلامى، أو الإعلامية، الحنجرة. يرى نفسه المنقذ للإعلام من الضلال، بينما يشارك فى تحويل الإعلام من الفعل إلى الفتوى بلا علم. وتم ما يمكن تسميته «تزعيق الخطاب السياسى».
لم يعد الإعلام يقدم متخصصين أو محللين، فقط متكلمين بالساعات، يحللون كل شىء من حرب اليمن، إلى تلوث المياه، اختفت الحقائق لصالح الحنجرة. والنتيجة انصراف المشاهدين عن برامج التى تصيبهم بالاكتئاب، وتكرر ما تطرحه مواقع التواصل طوال النهار. ولم يفسدوا فقط الخطاب الدينى، بل الخطاب السياسى الذى أصبح مجرد زعيق فى الفراغ.