«لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا» يعلنها سيدنا موسى عليه السلام، إنه النبى المكلم والرسول من أولى العزم ورغم ذلك يعلن أنه على استعداد لأن يجوب الأرض ويظل سائرا لأحقاب طويلة وأعوام مديدة وأزمنة مديدة لا لشىء إلا طلبا للمزيد من العلم النافع، وحين يلاقى العبد الصالح الذى أتاه من أقصى الأرض ليتعلم منه يخاطبه قائلا بكل تواضع: «هل أتبعك على أن تعلمنى مما علمت رشدا»، لم يستنكف موسى عليه السلام أن يقول تلك الكلمات للخضر عليه السلام. لم يجد حرجا أن يقطع المسافات ويجوب الفيافى وهو النبى المكلم والرسول صاحب العزم ليتعلم من عبد من عباد الله أوتى علما لم يؤته موسى. لم يثنه مقامه ولم تعطله مكانته عن التواضع والاستماع والتعلم ممن اطلع على علم لم يبلغه وأحاط بحقائق لم يدركها وهو الخضر عليه السلام, بل ويخاطبه بمزيد من التواضع قائلا: «ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا».
ثم ينطلقا.
هكذا فى حركة مستمرة دؤوب يعلمنا إياها القرآن فى كل حال ويربينا على التفانى والانطلاق فى طريق الاستزادة من الخير والفضل والحركة المستمرة والعمل الدائم، إنها حركة تجعل القلب يلهث وهو يتحرك مع أصحاب الكهف إلى كهفهم هجرة بدينهم وما يلبث أن يستريح حتى يلهث مرة أخرى مع الرجل المؤمن وهو يدخل على صاحب الجنتين يدعوه ويعظه ويذكره بالله ثم يهرع القلب سريعا مع نبى الله موسى وفتاه فى رحلة طويلة حتى مجمع البحرين يجوب قفارها موسى عليه السلام طالبا للعلم والفهم، ثم تتلاحق الأنفاس أكثر مع رحلات الملك العادل ذى القرنين بينما يجوب مشارق الأرض ومغاربها لنشر العدل ولنصرة المظلوم حيثما كان.
إنها رسالة واضحة مفادها أن هذا دين حركة وعمل وبذل وتفانٍ وليس دين دروشة وراحة وكسل. فى كل مقام وفى كل حال هناك نوع من الحركة المطلوبة، عند الاستضعاف كانت هناك حركة وصدع بالحق «وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ «إِذْ قَامُوا» «فَقَالُوا» رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا»، تأمل قيامهم وقولهم الذى تكرر بعد ذلك فى أكثر من موضع بقصتهم فى السورة التى سميت باسمهم، وعند ظهور المعاصى والغفلات كانت هناك الحركة الدعوية الحوارية التى ظهرت جلية فى القصة التالية والحوار المستمر بين صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن، وتكرار لفظ «وهو يحاوره» يبين تلك الحالة النابضة والسعى الحثيث للتغيير والنصح. وعند وجود نوع من الاستقرار يسمح بالحركة فى طلب العلم والاستزادة من المعرفة النافعة وجدنا موسى يجوب الفيافى والقفار معلنا نيته وعزمه وإصراره على بلوغ غايته العلمية كما بينا. وعند الرخاء والتمكين واكتمال الأسباب المادية والقوة السلطانية لن تجد فى السورة الإخلاد إلى دعة القصور وسعة حدائقها الغناء ولذاتها ومتاعها، بل ستجد حاكما عادلا وسلطانا قويا متحركا يجوب مشارق الأرض ومغاربها لينشر العدل فى ربوع المعمورة وينصر المستضعفين ويكف أذى المفسدين والظالمين «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْس»ِ «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ»، «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ»، ها هنا حراك عالمى لم يعرف إلا إقامة الحق والعدل واستعمال ما أوتى من أسباب لأجل ذلك.
الخلاصة أنه دائما كان ثمة حراك وبذل وعمل من نوع ما، إنها صورة رائعة للمجتمع المسلم المنشود، مجتمع متحرك عامل مهما تباينت الأحوال ومهما تغايرت الأوضاع والمؤثرات يظل الأصل أن المؤمن متحرك إيجابى نافع حيثما حل وارتحل.