«عابرون فى كلام عابر» قصيدة رائعة لمحمود درويش كنت أظنها تنطبق على مصر فى سنواتها الأربع الماضية ولكننا للأسف لم نعد عابرون نحن مقيمون فى كلام عابر وعالقون فى نفق الكلام وكأننا لا نجيد سوى هذه الصناعة التى لا تدر مالا وإنما تفتح بوابات اليأس وتقنن «الفتى» وانعدام الدقة وغياب العلم وتعكس الفراغ بكل تنويعاته وهذه الصناعة أصبحنا وكأننا لا ننتج سواها ولا نجيد غيرها عبر الشاشات أو فى الصحف أو الشوارع والبيوت وتصبح هذه الصناعة باذخة الكرم فى شبكات التواصل الاجتماعى وكأننا جميعا نبحث عن الصدارة فى ماراثون الكلام وكأنه لا يوجد ما يشغلنا سواه وربما يصاب البعض بتخمة الملل مما يسمعه من كلام ولكن فوضى الكلام لا تعرف الضجر وكأننا وطن دخل فى هيستريا الفتى وأصبح أهم ما يملكه احتياطيا كافيا من الكلام الذى يبدو أمامه رصيدنا من العمل هزيلا. أما أغلب ما تنجبه «شهوة» الكلام فهى آراء تعبر عن فراغ وانقسامات وتطرف وكلام يؤكد أنه الابن الشرعى للجهل.. والمؤكد أن إنتاجنا من الكلام لا يخلو من وجود كلام طيب ورأى متزن فما زال قليل من الناس يتقنون وضع الحكمة والعمق فى كلامهم ولكن طيبة الكلام واتزانه لا يصنع فارقا ولا تغير واقعا، فمتى يتوقف الكلام؟ ومتى تغادرنا هذه الشهوة التى تبدو وكأنها صدقة جارية؟ متى نخلع ما نرتدى من ثياب الكلام غير الأنيقة لنبدأ فى فعل إيجابى لا تشوهه فوضى ولا نحوله إلى فعل مدمر؟ متى يدخل الوطن إلى دائرة العمل؟
المؤكد أن كثير من الناس لديها أمراض مزمنة وهناك مشاكل كثيرة فى تركيبة الشخصية المجتمعية تجعل منا شعبا غير محب لجدية العمل وغير مبال بقيمته ولا يثمن قيمة ولكن هل وجد هذا الشعب ما يجعله يغير هذه القناعة ويعالج هذا المرض المزمن. هناك إشارات بعيدة لتغيير إيجابى قد يحدث وهناك وعود ولكن لا يوجد تغيير قريب حقيقى على الأرض.. تغيير جذرى فى تركيبة المجتمع فى فتح مسارات جديدة قادرة على التغيير بقوة وحسم..
لا يمكن لبلد أن يتقدم وهو قائم على «قدم وساق» الرئيس فقط ولا يمكن أن تشكك فى وطنيته ونزاهة أغلب الوزراء والمسؤولين وربما يمتلك بعضهم «مس» من إجادة ولكن الطيبة والنزاهة لا تكفى والإجادة عندما يصيبها البطء ولا تتناغم على إيقاع رئيس الدولة ومع قوة التحديات التى فرضت وتفرض علينا يصبح الفارق كبيرا فى الأداء.
الطاقة البشرية فى مصر فاقدة للحماس إلا الحماس الكلامى ولديها نقص فى الدوافع الإيجابية وبالتالى نرى أن ما ينبغى إنجازه فى يوم ينجز فى شهر أو فى سنة فمتى يتوقف الكلام ومتى تجد الدولة الطريقة والفعل التى تجعل هذا الشعب يستعيد عافية المثل والقيم والرغبة فى تغيير العقلية السلبية؟ متى نقوم بثورة داخل العقل المصرى الذى لم تغير منه الثورات شيئا؟ كيف يمكن لإنسان بائس وغارق فى مشكلات يومية وفارغ من المعرفة التى تجعل بينه وبين التقدم عشرات السنين أن يبنى وطنا ويقوم بثورات صناعية وزراعية.
إذا بقينا فى حالة هيستريا «الفتى» والكلام وإذا بقينا نقف جميعا على بركان الكلام الذى ينفجر فلن يرفع العمل راياته ولن نعلو به لنكون كما ينبغى أن يليق بنا وسيبقى الإرهاب مزهوا بإجرامه ولن يخجل الفساد من رفع أعلامه وسنبقى لا نصنع سوى ما نجيده من أرق الكلام والسخرية بينما التقدم لا يصنعه سوى العلم والعمل.