لم تكن وفاة الطيار السابق الصديق مجدى عبدالملاك، صاحب مقهى ريش، مجرد صدمة من أثر الفقد لصديق رائع ومثقف جميل وإنسان هادئ يعرف قيمة المكان ورواده، كانت سؤالا للمثقفين: ما الذى سيحدث فى مقهى ريش؟ هل انتهى زمانه وسيحدث له ما حدث لكل مراكز تجمعات المثقفين على مدى الأربعين عاما الماضية؟ هل سيتحول مثل غيره إلى مطعم أمريكى أو بازار أو مكتب صرافة أو حلوانى أو غير ذلك مما جرى للمقاهى الشهيرة مثل إيزافتش أو المالية أو استرا أو غيرها؟ على الفور انبرى المثقفون للدفاع عن المقهى والمطالبة باستمراره، وعرفت أن شركة الإسماعيلية التى تمتلك العقار أصدرت بيانا أن المقهى سيظل على حالته التاريخية، وفى عزاء الفقيد الرائع بكنيسة العذراء تحدث الدكتور مصطفى الفقى عن سؤاله للمهندس سميح ساويرس، أحد ملاك شركة الإسماعيلية، عن المقهى فأجابه المهندس سميح: من هذا المجنون الذى يطمس أثرا ثقاقيا عظيما مثل ريش؟ الحديث عن مقهى ريش طوال القرن الماضى طويل، وعن المثقفين كذلك، وعن الحركة الوطنية التى كانت مركزها الكبير، وعن الحركات الأدبية والمجددين فى الآداب والفنون من رواده، هناك كتب وأفلام عنه، وأستطيع لو أردت أن أفرد مئات الصفحات الأخرى عن ذكرياتى به منذ السبعينيات وكيف كان المكان الأثير فى حياتى وأحد الأماكن الحلم فى رواياتى «الإسكندرية فى غيمة» و«هنا القاهرة» وكتاب «أيام التحرير» عن ثورة يناير المجيدة.. لكنى أعود إلى السؤال: مقهى ريش مصنف هو والعمارة باعتباره مبنى ذا طراز معمارى يندرج تحت بند التراث، لكنه ليس مصنفا كأثر حتى الآن، ولقد سمعت أن جهاز التنسيق الحضارى يسعى إلى ذلك باعتبار مرور أكثر من مائة عام على المبنى كله، كما أن عددا كبيرا من المثقفين يناشدون وزارة الآثار أن تقوم بدورها فى ذلك، وكل ذلك جميل، لكن الأمر فى النهاية فى يد الورثة، هم وحدهم الذين يستطيعون أن يقرروا الاحتفاظ بالمقهى أو التخلى عنه، إذا احتفظوا به فلن تكون هناك مشكلة، وإذا تخلوا عنه فسيعود إلى شركة الإسماعيلية، وهنا سيكون عليها أن تفى بما وعدت به، لو احتفظ الورثة بالمقهى فلن يكون المثقفون غرباء ولا المكان غريبا، فأبناء المرحوم ميشيل عبدالملاك، الأخ الأوسط لمجدى، وزوجته ليسوا غرباء عنا، بل كبر الأبناء وسط المثقفين، ومحبتهم فى قلوبنا عظيمة، أنا لا أعرف ما إذا كان للمرحوم مجدى أبناء أم لا، أترك الأمر لأصحابه أملاً ألا يتخلوا عن المقهى، وأن يجدوا طريقة لتسوية الأمر بينهم وبين الأخ الثالث الغائب فى أمريكا.. أكتب هذا حزينا من مفاجأة وفاة الصديق مجدى، لقد كان آخر لقاء لنا معًا ونحن نصور فيلما عن المقهى أعدته وتخرجه المخرجة الشابة سالى أبوباشا، لم يأت على خاطرى أن هذه آخر أيام مجدى، لم أنتبه إلى أنه فى الأيام الأخيرة كان لا يتحدث كثيرًا، كانت هذه عادته لكن لم يعد صوته يرتفع، صار يهز رأسه معلقًا مبتسمًا على ما نقول كأنه ينفض يده من الحياة، وداعًا أخانا الرائع الذى بوفاتك جعلت تاريخ المقهى وتاريخ الوطن يعود يقف أمام ذاكرتنا من جديد.