يبدو المشهد هكذا، شاعر كبير وأصيل يغيب فى سن الثالثة والأربعين، بعد أن يقدم لنا فتوحات جمالية كبيرة فى ستة دواوين شعرية هى كل منجزه، وخصوم صغار يواصلون الحياة على أمل أن يفسح لهم غياب الشاعر المجال لكل ما ظنوا أن الشاعر يستأثر به من دونهم، الشهرة الطاغية، القراء المريدون الذين يزدادون يوما بعد يوم، وذلك الألق الذى تكتسبه قصائده كأنها كتبت للتو ومن وحى اللحظة الراهنة وأحداثها. يملأ الخصوم الصغار صفحات الجرائد والدوريات بالضجيج وبالقصائد الباهتة والعوالم المطروقة، يطبعون أعمالا مائعة لا تستحق الطبع، يدشنون أنفسهم فى مكانة الشاعر الكبير، لكنهم لا يجدون أبدا المردود الذى وجده صاحب «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» لأن ما كان يبحث عنه ويطلبه كان ينبع من داخله وتدعمه موهبته الكبيرة وخياله الشعرى ورؤيته للعالم، أما ما يبحث عنه خصومه الصغار فكان خارجهم فى وسائل الإعلام وفى دور النشر ولدى المسؤولين الصغار، وإن استعلوا، من موظفى وزارة الثقافة.
كلما مرت السنوات، يبحث الشعراء الصغار عن التحقق خارج ذواتهم بلا جدوى، ويظلون معذبين بوعيهم أنهم صغار، فيستحضرون الشاعر الكبير الغائب ويستعيدون الخصومة معه، فيزداد حضورا رغم الموت ويمعنون هم فى الغياب رغم بقائهم على قيد الحياة، خصومتهم تدفع أيدى جديدة إلى استعادته والانجذاب إلى روحه الوهاجة بينما ينزاحون هم إلى قاموس الحماقة، حيث يكبلون أنفسهم بتجاوزاتهم المتعسفة.
وصم المتعسفون قصائد صاحب العهد الآتى بأنها سياسية تارة ومباشرة تارة أخرى وبأنها مجرد تعليق على الأحداث تارة ثالثة، هو الذى اختار- واعيا بتاريخ الفن الشعرى- «تعليق على ما حدث» عنوانا لواحد من أجمل أعماله، وهو الذى كان يرى أن التحدى الأبرز للشاعر أن يجد لنفسه البناء والأسلوب الجمالى الذى يمكن التعبير من خلاله عن قضايا وطنه وأمته أصدق تعبير.
لم يرد أمل دنقل على المتعسفين من منتقديه والمتمسحين فى منجزه الشعرى، لكنى أراه من وراء الغياب يضحك منهم ضحكة كبيرة مجلجلة وهو يتابع ألاعيبهم البائسة ويقرأ من قصيدته إلى محمود حسن إسماعيل فى ذكراه: من زمن الشعراء الأناشيد/للشعراء السجاجيد/ من زمن الشعراء الصعاليك / للشعراء المماليك/أرسم دائرة بالطباشير/ لا أتجاوزها» هاهاهاهاهاهاهاها.