أحمد الجمال

رمضان فى الليمان

الثلاثاء، 23 يونيو 2015 10:57 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما كان السجن كالقبر.. إما حفرة من حفر النار.. أو روضة من رياض الجنة.. وهذا يتوقف فى القبر على ما قدمت يدا الإنسان، أما فى السجن فيتوقف على مدى قدرة الإنسان على التكيف والتعامل مع متغيرات حياته، باعتبارها أمراً طبيعيا وترويض عقله وحواسه على أن تستجيب للتحدى، فتجعل من العسر يسرا! دخل علينا رمضان ونحن- العبد لله ومجموعة كبيرة من أهل السياسة الذين هم فى معظمهم من أهل الفكر والثقافة- فى ليمان أبوزعبل.. وكانت الجغرافيا البشرية موزعة على سياسيين من الشيوعيين والناصريين أساسا، وكلهم محتجزون على ذمة القضية رقم 100 حصر أمن الدولة العليا، الخاصة بأحداث يناير 1977، وتضم محكوما عليهم من المنتمين للتيار الإسلامى السياسى.. ومجموعة الفنية العسكرية التى انتمت لحزب التحرير الإسلامى، وكان يقوده فلسطينى اسمه صالح سرية ومعه آخرون، وحاولوا قلب نظام الحكم بأن اخترقوا الكلية الفنية العسكرية، وجندوا بعضا من طلابها المتفوقين، وكانت الخطة - حسبما نشرتها الصحف آنذاك، مطلع السبعينيات - أن يستغلوا وجود السادات فى اللجنة المركزية وانشغال الأجهزة الأمنية بتأمين الرئيس، وعند لحظة الصفر يستولى التنظيم الإسلامى على سلاحليك الكلية ومعدات أخرى، وينطلقون إلى وزارة الدفاع القريبة من الكلية، ويسيطرون عليها وهلم جرا، ولكن الخطة فشلت، وتم القبض عليهم، وحكم بالإعدام على صالح سرية وكارم الأناضولى وآخرين، وحكم على البقية بالأشغال الشاقة المؤبدة، وتلك البقية هم من تعاملت معهم فى سجن الاستئناف وليمان أبوزعبل، وكان يقودهم شاب قصير القامة، أبيض البشرة، ذو لحية كثة تميل إلى اللون الحنائى، اسمه سعيد دربالة، وربما هو شقيق عصام دربالة الذى يتردد اسمه الآن فى الخريطة السياسية. وشملت الجغرافيا البشرية أيضا أعضاء تنظيم التكفير والهجرة الذين قبض عليهم إثر اغتيال المرحوم الشهيد الشيخ الذهبى، وكان زعيمهم هو شكرى مصطفى.. وعدا ذلك كانت بقية الجغرافيا البشرية موزعة بين جنائيين من كل نوع : تجار مخدرات من كبار الأثرياء، وقتلة محترفين محكومين بأكثر من مؤبد، ومجرمين من عتاة اللصوص والهجامين والنصابين، إضافة إلى المساجين الوافدين من أقطار عربية وقبض عليهم، وأدينوا بتهم جلب المخدرات فى المقام الأول، وبعضهم أدين فى قضايا جنائية ذات بُعد سياسى، كقضية محاولة اغتيال محمد على هيثم رئيس وزراء اليمن الجنوبى آنذاك، التى كان متهما فيها ومدانا، اثنان عايشتهما فى السجن، أحدهما فلسطينى هو صلاح العمرى، أقوى مقاتل قناص من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصالح أحمد عيسى مدير مكتب شركة الطيران اليمنية الجنوبية والعضو البارز فى الحزب الاشتراكى اليمنى الجنوبى! وفلسطينى آخر لا أذكر اسمه ولكن أذكر وقائع سلوكه الطريف، إضافة إلى ليبى حكم عليه فى محاولة اغتيال البكوش رئيس وزراء ليبيا، أو اغتيال عمر المحيشى عضو مجلس قيادة الثورة الليبية المنشق على القذافى! وكان اسم المسجون ونيس فحيمة، أما الجغرافيا الطبيعية لليمان أبوزعبل، خاصة العنبر الذى احتوانا، فهو عنبر حديث يقال إنه بنى بتمويل وتصميم فرنسى، إذ كانت زنازينه فى الدور الأرضى انفرادية ضيقة وفى الدورين الثانى والثالث واسعة رحبة تزيد على العشرين مترا طولا فى 10 أمتار عرضا، وملحق بها مساحة مرتفعة بدرجتى سلم، فيها حوض به ست حنفيات لغسيل الوجه والوضوء وخلافه، وأمامه مساحة خالية «مترين فى مترين» لغسيل الهدوم وتجهيز الطعام، وعلى الجانب مرحاضان أحدهما بلدى والآخر إفرنجى! ودخل رمضان كما قلت، وبدأنا الاستعدادات بإعادة تقسيم العمل لإعداد الإفطار والسحور وفرش سجاجيد الصلاة وتنظيف الزنزانة، وعند الإفطار واجهتنا معضلة تكررت عند السحور، إنها معضلة الاختلاف العقيدى والفقهى الذى نشب وتصاعد وشاع بين كل المساجين، إثر فتوى مجموعة من المساجين الوافدين الذين يتمذهبون بالمذهب الجعفرى، بأن الإفطار لا يكون مع أذان المغرب بل عند دخول الليل، لأن الآية تقول «وأتموا الصيام إلى الليل» وليس إلى أذان المغرب، وكذلك الحال فى الإمساك، حيث رأوا أيضا أن الآية تنص على التمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر وليس أذان الفجر!! وصارت الدنيا تضرب تقلب بسبب اتساع دائرة المقتنعين بهذا الاجتهاد، وأيضا الذين حرصوا على ما هم عليه، يعنى الإفطار مع أذان المغرب، خاصة عند نطق الشهادتين، والإمساك مع أذان الفجر أو قبيله! وازداد الطين بلة مع انطلاق عدة أذانات للفجر علت بها عقائر أصحاب المذاهب، فهذا فجر كاذب وهذا فجر حقيقى، وهذا سنة وذلك فرض! وصار الأمر كما يقول أهلنا الفلاحون «زروطة» إفتاءات ومشادات وصلت إلى حد التراشق والسب المتبادل للمقدسات! وعلى غير عادتى لم أقتحم النقاش وكنت حريصا بعد أداء واجبى فى تقسيم العمل، رغم أننى كنت «كبير» حبسة الناصريين، أن أصطحب المصحف وأتجه إلى السلم المؤدى إلى سطح العنبر ويفصل بين بسطته الأخيرة وبين السطوح باب حديدى غليظ مقفل بجنزير وقفل، ولكن الفتحات بين قضبانه واسعة نسبيا تسمح للبصر بأن يسرح فى الفضاء الواسع الذى تظهر فى أفقه الأدنى خضرة الأشجار المحيطة بالليمان، وفى أفقه الأعلى زرقة السماء الصافية،وهذا المكان أعلى البسطة اسمه «الشخشيخة» وأجلس لأقرأ القرآن وأسرح ببصرى مستمتعا مطمئنا، ومضت أيام رمضان إلى أن اقترب منتصفه لتحدث واقعة الإضراب المفتوح عن الطعام والذهاب إلى تأديب الليمان وهى قصة سبق ورويتها.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة