للأسف شكلت، وما تزال، مسلسلات رمضان والفوازير والإعلانات، وعى أجيال من المصريين، وهو وعى زائف وسطحى، لأنه يعتمد على قصص بسيطة وأفكار مكررة تعيد إنتاج القيم وأنماط السلوك السائدة فى المجتمع، وتلعب بعواطف الناس وميولهم، من خلال قوالب درامية مشوقة وجذابة، مما يساعد على تمضية الوقت بشكل مسل، والهرب من واقع الحياة الصعبة إلى عالم الحلم بامتلاك شاليه على البحر، أو العيش فى قصر من قصور مسلسلات رمضان. هذه الصيغة ليست إبداعا مصريا أو هنديا أو تركيا، وإنما هى خلطة مستوردة من الغرب، وتحديدا من المسلسلات التى ظهرت فى الثلاثينيات من القرن الماضى فى أمريكا وبريطانيا، وكانت تذاع عبر الراديو ثم التليفزيون فى ساعات النهار وتستهدف ربات البيوت، لذلك جذبت إعلانات شركات الصابون والمنظفات، وخضعت فى إنتاجها لشروط هذه الشركات، ولذلك عرفت بـ«أوبرا الصابون».
وأعتقد أن معظم المسلسلات العربية تخضع لشروط المعلنين سواء كانوا منتجى صابون ومنظفات أو شيبسى أو سيارات أو شركات محمول أو عقارات، وأغلب هذه الشروط غير معلنة، وأهمها نجومية الممثلين، وبساطة السرد والتشويق، مع الإبهار وتقديم كثير من الحكم والمواعظ، والحلول السعيدة فى نهاية كل مسلسل. ويؤكد المعلنون هيمنتهم على أى مسلسل من خلال التقطيع المستمر، وبث إعلاناتهم فى فترات تزيد على الوقت المحدد لكل حلقة، ومادامت لا توجد قوانين أو قواعد تحترم حقوق المشاهدين فإن زمن الإعلانات فى بعض قنواتنا الخاصة يزيد على الوقت المخصص لأوبرا الصابون والفوازير والبرامج بأنواعها.
طبعًا لا يمكن وقف مولد مسلسلات رمضان أو برامج المسابقات السخيفة التى حلت محل الفوازير، ولا يمكن وقف الإعلانات، لكن كل ما أطالب به هو تنظيم بث الإعلانات وتطوير المستوى الفنى والأخلاقى للمسلسلات والإعلانات والمسابقات، من خلال فرض رقابة مجتمعية تجسدها هيئات مستقلة عن الدولة وجمعيات للدفاع عن حقوق المشاهدين، لأن المضامين والصور والرموز المقدمة فى المسلسلات والإعلانات خلال شهور العام تسهم فى التنشئة الاجتماعية للأطفال والشباب، كما تشكل الوعى والذائقة الفنية لأغلبية الجمهور، وأتصور أن تحليل مضمون تلك المسلسلات والإعلانات يكشف عن أحد أهم مداخل التعرف على ثقافة المصريين المعاصرة، وكيف يجرى تشكيلها، وما هى منظومة القيم والعادات والتقاليد المصرية التى يتم زرعها فى عقل ووجدان المصريين.
ولاشك أن المؤرخ الاجتماعى أو الثقافى لا يمكن أن يفهم المجتمع والثقافة المصرية بدون دراسة مناهج التربية والتعليم فى المدارس والجامعات، وما نشر فى الصحف خاصة أقسام الحوادث، إضافة لمضامين وأشكال المسلسلات والأفلام والإعلانات والمسابقات، ومن الممكن استرجاع الكتب وأعداد الصحف القديمة وقراءتها، أما مسلسلات الصابون والإعلانات فإنها تزول تماماً كفقاعات الصابون، ولا يمكن استرجاعها، حيث لا يوجد سجل أو مكان يحفظ ويوفر الإعلانات والمسلسلات والأفلام القديمة التى ظهرت فى الستينيات أو فى السبعينيات مثلاً، وما تضمنته من أشكال من الوعى الحقيقى أو الزائف، لذلك أقترح إصدار قانون لإنشاء أرشيف قومى لحفظ الإعلانات والمسلسلات، وحتى برامج المسابقات والطبخ، لأنها تحمل ذاكرة المجتمع والثقافة فى مرحلة معينة، وإنشاء هيئة تتيح لأى مواطن الرجوع إلى هذه الأشياء ومشاهدتها على غرار السينماتيك فى كل أنحاء العالم التى لم تعرفها مصر، رغم تاريخها السينمائى العريق، وعلى غرار دار الكتب التى تحفظ كل ما صدر فى مصر من كتب وصحف، وتتيحها لمن يرغب فى الاطلاع عليها، ويمكن تطوير أشكال العرض وإتاحتها عبر الإنترنت مقابل رسوم زهيدة.
باختصار رسالتى هى الحفظ والإتاحة لفقاعات الصابون، من إعلانات ومسلسلات وبرامج، وقناعتى أن انتقاد «أوبرا الصابون» وحمى الاستهلاك فى الإعلانات لا تعنى تجاهل تأثيراتها الاجتماعية وتأثيرها، بل ضرورة حفظها ودراستها، لأنها أصبحت جزءًا من الذاكرة التاريخية لمصر، ومصدر بالغ الأهمية لمعرفة تطور الحياة الاجتماعية والثقافية للمصريين، وهنا أفترض أن تدهور وانحطاط وسطحية مسلسلات وأفلام وإعلانات كثيرة كان وراء ما حل بنا كمصريين من أنامالية مفرطة، وتدين ظاهرى، وتهرب من العمل الحقيقى، وتحايل على القانون، وتهرب من تحمل المسؤولية، علاوة على عدم احترام المرأة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة