بعيدا عن المزايدات المُبتذلة لإظهار الولاء لمسار الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس السيسي، فأحسب أنني أحد ملايين المؤيدين لترسيخ أركان دولة عصرية تتبنى الحداثة، وتحسم انحيازها للهوية المدنية صراحة بتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لعبور المرحلة الانتقالية باستبعاد الجماعات والأحزاب الدينية، وتمكين القوى المدنية المُطالبة بدورها بالتحرك ميدانيًا، لتتسع دائرة تأثيرها الشعبي، وتسعى لاحتواء الشباب حتى لا تختطفهم قوى التطرف وتجعلهم وقودها، وتنشط بالعشوائيات والصعيد بكثافة بكثافة وجدّية.وبالإضافة لذلك فينبغي مراجعة منظومات التعليم والجهاز الإداري للدولة بإعادة هيكلتها وتنقيتها من اختراقات المتطرفين بحزم ، وإعادة النظر بالتسامح غير المفهوم مع السلفيين وأحزابهم فهؤلاء "دواعش كامنة" سينسفون التناغم الاجتماعي، ويعمقون الاستقطاب بهجومهم المستمر ليس على المسيحيين وحدهم ، بل تمتد عدوانيتهم لمخالفيهم من المسلمين ، فالمجتمع المصري كان لقرونٍ طويلة "متنوعًا ومتسامحًا"، واتسع صدر المصريين لاستقبال الغرباء المضطهدين كما حدث ليهود أوروبا والأرمن وغيرهم، لكن البلاد شهدت خلال العقود الماضية تحولا جذريًا، فأصبح يضيق حتى بشرائح أصيلة من المصريين، بعيدًا عن اللغو الفارغ حول النسيج الواحد وغيره من الهراء، فما يقال أمام الكاميرات، أو بالخطاب الرسمي منعدم الصلّة بالواقع.
ودعونا نعترف بشجاعة أن مصر تشهد الآن حالة انقسام عميقة ، لا يرى المراقبون أفقًا لاحتوائها، بعدما بلغت تداعياتها حدا أصبحت معه صورة المصري البشوش الطيب مجرد "حالة فولكلورية"، فالمسيحيون اتخذوا أحياء وبنايات بعينها، مقابل مساجد لا يعتلي منابرها سوى السلفيون، وأخرى يؤدي الفريضة فيها دعاة الأوقاف، وبينهما تنوعات شتى. وتواجه الجمهورية الجديدة مأزقًا حقيقيًا حيال حسم "هوية الدولة"، فلا تسعى لترضية السلفيين الذين يذهب بهم الشطط لحد سيُفضي إلى "دولة فاشلة"، بإعادة تدوير نفايات التاريخ كما حدث في نهاية "رجل أوروبا المريض" أي الخلافة العثمانية التي تجاوزها الأتراك أنفسهم ليؤسسوا دولة عصرية حققت المعادلة الصعبة بالتصالح مع العالم المعاصر، والحفاظ على هويتهم الحضارية .
وأخيرًا ما ينبغي أن يُدركه صُنّاع القرار أن مصر "دولة علمانية بامتياز" فهذا البلد المتسامح الذي ظل طيلة تاريخه الممتد واحةً لجميع الأجناس والأديان، وجمع بين صرامة الدولة المركزية، وتنوع مفردات مجتمعها، من البوادي بالتخوم الشرقية والغربية، لخصوصية النوبة جنوباً، مروراً باستيعاب جاليات أجنبية كالأرمن والإغريق والشوام وغيرهم.
هذه الدولة المركزية يتمدد فيها النيل كأنه "العمود الفقري" لجسد، يبدو مفعماً بالحيوية تارة، ومترهلاً تارة أخرى، لابد أن تكون دولة علمانية لتتجاوز الهويات الفرعية الدينية منها والعرقية والثقافية وغيرها لنقف معًا تحت مظلة أشمل وأوسع اسمها "الوطن" الذي يبدو من فرط المتاجرة به جهل الكثيرين بجوهره.