ورحل طارق عزيز وزير خارجية العراق دون أن ينحنى.
رحل وهو فى السجن مستمسكا بحريته، فالحرية فى حالته لا تعنى السير فى الهواء الطلق، والنوم على سرير بيتك، والعيش خلف بابك، وإنما تعنى العيش فى السجن أثمن من التفريط فى المبدأ.
نعته خصومه بالكثير، قالوا: «مبرر لاستبداد صدام»، لكنهم برروا وحللوا إدخال العراق تحت هيمنة الاحتلال، وعملوا لتحقيق هذا الهدف بكل جد وإخلاص، وبرروا وحللوا إدخاله فى نفق الطائفية وعملوا لتحقيقه بجد وإخلاص، وبرروا وحللوا تقطيع الأرض شبرا شبرا وتقسيمها بين الطوائف، والطائفة التى تريد إلحاق العراق بركب مضاد لعروبتها، تربح أرضا أوسع.
لم نر مع طارق عزيز تناحر الشيعة والسنة، ولا اضطهاد الإيزيدين، ولا سبايا الإيزيديات، كنا نعرف أنه وزير لخارجية العراق الذى فيه «شيعة» و«سنة» و«أكراد» و«صابئة» و«أرمن» و«سريان» و«كلدان» و«يهود» و«مندائية»، و«لالش» و«آشوريين»، هل يوجد بلد عربى غير العراق فيه كل هذه الأطياف من الأعراق والأديان؟، فصار بلدا عربيا فريدا فى تنوعه، كما هو فريد فى نخيله، وأرضه المنبسطة، وحضارته الضاربة بعمق فى تاريخ الإنسانية، كما هو فريد فى موسيقاه الحزينة من إبراهيم الموصلى حتى ناظم الغزالى، وفريد فى شعره وشعرائه من المتنبى إلى الجواهرى وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتى، وقديما قالوا: «الشعر يولد فى العراق».
كان طارق عزيز وزير خارجية قال كثيرون عن كفاءته، وكان «مسيحيا» لكن لم يتحدث باسم العراق من باب ديانته، كان يتحدث من باب قوميته العربية المؤمن بها، والعداء لإسرائيل الصادق فيه، ولهذا دفع الثمن، عاش فى السجن، بينما مرح اللصوص والقتلة والخونة منذ دخولهم العراق على دبابات الاحتلال الأمريكى، وكان بمقدوره أن يمرح ويثرى لو قال قبل العدوان الأمريكى كلمة تمناها كل هؤلاء: «يسقط صدام»، يمكنك أن تغفر للسياسى تقديره الخاطئ، لكن لا تغفر له خيانته ولصوصيته.
بينى وبينه نظرة لا أنساها فى نادى الصيد ببغداد، حين كنت فى العراق قبل الحرب بشهور مع وفد مصرى شعبى يشارك فى مؤتمر تضامنى حضرته وفود عربية عديدة، وكان الدكتور خالد جمال عبدالناصر، رحمه الله، موجودا، وأثناء حفل عشاء بالنادى، وقع «خالد» على الأرض مغشيا عليه نتيجة وافد مرضى عليه لم يكن يعرفه من قبل، وينشط مع تسليط أضواء الكاميرات عليه، تجمع المئات حول خالد ودخلت عليه بحكم صداقتى به، نادانى خالد، بينما كان طارق عزيز يأخذه على صدره ويطبطب عليه: «سلامتك يا حبيبى، سلامتك يا خالد»، وحين جاءت سيارة الإسعاف لحمله إلى المستشفى، سمعناه يرد على أحدنا: «معقول بتوصونى على ابن جمال عبدالناصر».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مُتفق مع الكاتب المُحترم
آن لنا أن نتعلم كيف نعرف أقدار الرجال ونُنزلهم منازلهم حتى لو إختلفنا معهم
بل حتى لو كرهناهم وعاديناهم