قبل أن أستكمل بعضا مما فى صفحة «الترحيلة الخارجية»، التى تشعبطت فى طائراتها وقطاراتها، ورحرحت فى حدائق شوارعها، وجُعت على أرصفتها، فيما لعابى سائل أمام عربات «الهوت دوج»، ولا أستطيع أن أشترى لقمة، إلى أن حط بى الترحال فى الشارقة ضمن سياق حكيته فى مقالات سابقة، وتوقفت عند الاتصال الهاتفى الذى تلقاه موظف «التحويلة أو البدالة» فى جريدة «الخليج»، أود أن أتوقف لحظات أمام نقطة معينة أثيرت أثناء رحلة الرئيس عبدالفتاح السيسى لألمانيا، وظهر فيها عدم استيعاب الألمان أو الأوروبيين لدور الجيش المصرى! الأمر الذى دفع الرئيس لكى يتحدث أمام المستشارة عن خصوصية هذا الدور فى مصر، ولن أسهب فى دور جيش مصر منذ ما قبل الأسرة المصرية الأولى فى العصور القديمة، إنما أرصد معكم أول محطة، وهى تمكن مصر من توحيد قطريها أو وجهيها «الشمالى» و«الجنوبى»، أى «البحرى» و«القبلى» فيما بعد، لأنه من الواضح أن اسم «القبلى» ارتبط بالقبلة، أى الكعبة، أى ظهر بعد الفتح الإسلامى، وكان التوحيد على يد مينا الذى كان على رأس جيش الجنوب، واستطاع أن يضم التاجين فى تاج واحد، ثم محطات عديدة بعد ذلك فى العصور القديمة والإسلامية والحديثة تؤكد أن وجود الدولة المصرية مرتبط فى المقام الأول والأخير بوجود الجيش المصرى، والعلاقة علاقة تناسب طردى بين الاثنين، أى إذا تماسكت الدولة وتوازنت وقويت بنت جيشًا عظيمًا يساهم فى تحقيق الأمن الداخلى وحماية الحدود وصد العدوان القادم إليها، سواء عند نقطة انطلاقه من الشرق والشمال الشرقى بوجه خاص، أو عند وصوله إليها، ثم إن الجيش العظيم القوى الذى يضم أبناء الشعب يكون دومًا هو القاطرة الرئيسية التى تشد الوطن، وتمضى به فى طريق الاستقرار والتقدم والازدهار، وتمكنه من لعب دوره فى محيطه، ولقد كانت المحطة الحديثة التى ظهرت معالمها إثر ثورة المصريين على الوالى العثمانى سنة 1805، وإزاحتهم له ودعوتهم محمد على باشا ليتولى سدة الحكم، نموذجا مثاليا لما أذهب إليه، لأن المصريين أدركوا، ويدركون غريزيًا، أن إنقاذ الدولة من الانهيار مقترن بوجود قوة تحمى الأمن وتردع الخارجين وتصد الطامعين، فكان أن توجهوا لقائد عسكرى هو محمد على الذى كان لديه من الفطنة ما مكنه من التقاط الخيط، وسارع بعد توليه بفترة وجيزة إلى بناء جيش مصرى، ومن أجله بدأ ينهض بمرافق البلاد ويغير فيها تغييرات جذرية ابتداء من تطوير طوائف الحرف ببناء المصانع والمعامل والورش الحديثة والترسانات الصناعية، وإجبار أبناء الأسطوات والحرفيين على الذهاب إلى المدارس، ومن ثم إلى المصانع، وليس انتهاء بإرسال البعثات للخارج، ونسف نظام الالتزام فى الأراضى الزراعية، إذ كان ذلك النظام هو العمود الفقرى للزراعة فى حقب الظلام العثمانى. بنى الرجل الجيش، وكلما تقدم به تقدمت البلاد معه. ومن المفارقات التاريخية أن جيش محمد على هو الذى وقف فى وجه السلالة العلوية فى الحكم من أجل العدل الاجتماعى والحرية.. وكانت الوقفة الأولى للجيش بقيادة أحمد عرابى باشا الذى أطلق أول صيحة لرفض التمييز العنصرى على الصعيدين الاجتماعى والسياسى أمام الخديو فى ميدان عابدين، وكان الجيش نفسه بعد سبعين سنة هو من أزاح الأسرة العلوية من الحكم عام 1952، طلبا للاستقلال الحقيقى وللعدل الاجتماعى والحرية السياسية. جيش مصر الذى لا يفهم الأوروبيون خصوصية دوره هو جيش الدولة المركزية النهرية، فيما الوضع هناك، وحتى العصر الحديث، كان انعكاسا لحضارة وثقافة الاستبس الرعوى الذى لم يعرف نشأة الدول المركزية ولا نشأة الجيوش الوطنية، بل عرف الحشود الزاحفة للقتل والتدمير والغنائم، وما سيرة قبائل الجرمان والسلاف والماجيار والهون والقوط وغيرهم إلا سيرة لقادة وحشود مسلحة لا تعرف الرحمة، ومن يتابع نموذج «أتيلا» قائد «الهون» يعرف ما أتحدث عنه. وأعود إلى «ترحيلتى الخارجية» إذ كان المتصل بالجريدة هو الشيخ سلطان القاسمى، حاكم الشارقة، يريد أن يناقش تحقيقا صحفيا كتب فيه المحرر عن معاناة مائتى ألف مواطن فى إحدى مناطق إمارة الشارقة من قلة مياه الشرب ونظام الصرف.. وأخذ الرجل يفند المعلومات واحدة بعد أخرى إلى أن وصل وقال ضاحكا: ومن أين المائتا ألف فى منطقة من مناطق الإمارة؟ لأن الإمارة كلها بكل مناطقها لا يسكنها مائتا ألف! وبعدها كتبت عمودا بدأته بعبارة قلت فيها: بدلا من أن يرفع صوت الوعيد والتهديد بالإغلاق والمصادرة، وهذا من صلاحياته، رفع سماعة الهاتف وأجرى حوارا حضاريا هائلا. وفور أن قرأ رئيس التحرير، تريم عمران، العمود حتى بادر وقال لى: سنرفع اسمك، وسنضع اسم «الخليج» على العمود، ونأخذه افتتاحية للصفحة الأولى.