منذ قرابة عامين والعالم لم يسمع من موسكو وواشنطن سوى تبادل الاتهامات والإدانات والتصريحات الحادة، التى أعادت فى رأى الكثيرين أجواء الحرب الباردة، ووصل الأمر إلى تغيير كل من البلدين لعقيدتهما العسكرية ليضع الآخر على رأس قائمة أعدائه، وقبل إعلان اتفاق فيينا حول النووى الإيرانى بأيام قليلة، فى مطلع يوليو الجارى أعلنت واشنطن عن استراتيجيتها الأمنية الجدية التى وضعت فيها روسيا على رأس قائمة أعدائها، وكان الرئيس أوباما فى سبتمبر الماضى قد وضع روسيا على رأس قائمة الأخطار التى تهدد العالم، بينما صرح قائد الجيوش الأميركية جوزف دانفورد قبل إعلان اتفاق فيينا بأسبوع واحد فقط بأن "روسيا تشكل اليوم أكبر تهديد للأمن القومى الأمريكى”، وبعده بأيام قليلة كررت وزيرة سلاح الجو الأميركى ديبورا جيمس نفس التصريح أثناء جولتها فى بعض دول أوروبا، حيث قالت إن روسيا تشكل أكبر تهديد للأمن القومى لبلادها ولحلفائها الأوروبيين.
فى ظل هذه الأجواء من العلاقات بين موسكو وواشنطن جاء الإعلان يوم 15 يوليو عن الإنجاز النهائى للاتفاق النووى الإيرانى، وفجأة، وبدون مقدمات فوجئ العالم بموسكو وواشنطن يتبادلان، وبسخاء واضح، كلمات الشكر والتقدير، كل منهما للآخر على الجهود التى بذلها لإنجاز هذا الاتفاق، وتلقى الرئيس الروسى بوتين، فى ساعة متأخرة من مساء 15 يوليو، اتصالا هاتفيا من الرئيس الأمريكى أوباما، وقال بيان نشر على موقع الرئيس الروسى حول هذا الاتصال: "أشاد الزعيمان بنتائج مفاوضات حل الوضع حول البرنامج النووى الإيرانى التى اختتمت فى فيينا، وأشارا إلى دور الحوار الروسى الأمريكى فى حفظ الأمن والاستقرار فى العالم، وأبدى الجانبان الاستعداد لمواصلة العمل المشترك لتنفيذ اتفاقات فيينا، وأيضا بشأن بعض القضايا الدولية الهامة الأخرى بما فيها مواجهة خطر الإرهاب الدولى”.
ومن جانبه، قال البيت الأبيض فى بيان له حول الاتصال الهاتفى بين الرئيسين الأمريكى والروسى، فى إشارة إلى الاتفاق بشأن إيران، إن "الرئيس أوباما شكر الرئيس بوتين على دور روسيا المهم فى تحقيق ما توّج بمفاوضات مكثفة استمرت نحو 20 شهرا، وأبدى الرئيسان الرغبة فى التعاون من أجل تخفيف التوتر فى المنطقة خاصة فى سوريا، وفقا للبيان الصادر عن البيت الأبيض".
وفى حديث له مع صحيفة "نيويورك تايمز" عبر الرئيس الأمريكى أوباما عن تقديره لإسهام روسيا فى مفاوضات حل المشكلة المتعلقة بالبرنامج النووى الإيرانى، وأقر باستحالة التوصل إلى اتفاق "جيد" مع إيران دون مشاركة روسيا.
من جانبها أدلت موسكو بدلوها فى المجاملات لواشنطن، حيث أشاد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى اجتماع لمجلس الأمن الروسى عقد فى موسكو، الجمعة 17 يوليو بالدور الأساسى والموقف البناء للولايات المتحدة الأمريكية فى المرحلة الختامية من مفاوضات المجموعة السداسية مع إيران، مما ساعد على توصل الجانبين إلى اتفاق بشأن برنامج طهران النووى.
كما سبق أن صرح وزير الخارجية الروسى، سيرغى لافروف، يوم الخميس 16 يوليو، بأن الولايات المتحدة قامت بالدور الحاسم فى التوصل إلى اتفاق شامل بشأن البرنامج النووى الإيرانى.
وقال لافروف خلال مؤتمر صحفى: "أنوه ودون مبالغة أن الدور الرئيسى والحاسم، فى التوصل إلى اتفاق، يعود إلى الولايات المتحدة، إنها حقيقة لا جدل فيها، فمن دون تركيز الولايات المتحدة على النتيجة والبحث عن حلول وتسويات مقبولة للطرفين لما تم التوصل إلى الاتفاق".
هذه التصريحات من الطرفين يغلب عليها، فى رأى الكثيرين، طابع المجاملات، حيث إنها تأتى فى ظل ظروف غير مواتية تماما فى العلاقات بين البلدين، الأمر الذى يثير الجدل والتساؤلات حولها، والسؤال المطروح "ماذا تريد واشنطن من موسكو والعكس؟"، وهل لدى كل من الطرفين هدف واحد، أم أن لكل منهما أهدافه الخاصة به، وهناك من يرى أن الأمر ليس مجاملات بل هو واقع ملموس، حيث إن واشنطن هى صاحبة المبادرة للحوار والتفاوض، وموسكو هى التى ضغطت على طهران حتى تقدم المزيد من التنازلات وتبتعد عن التشدد من أجل الوصول إلى الاتفاق.
أيا كان الأمر فإنه لا شك أن لغة المجاملات هذه بين موسكو وواشنطن، ترضى كثيرين وتغضب كثيرين، فهى بالقطع لا ترضى الرافضين للاتفاق حول البرنامج النووى الإيرانى، بينما ترضى كل من يدعم ويؤيد الاتفاق، لأن هذه اللغة فى حد ذاتها تؤكد رضا وتوافق مواقف القوتين العظمتين من الاتفاق، مما يعطى دعما كبيرا وضمانات قوية لتنفيذ هذا الاتفاق.
أما بعيدا عن الاتفاق النووى وعن إيران، فإن لغة المجاملات هذه ترضى من يأملون فى تهدئة الأوضاع بين موسكو وواشنطن، خاصة الدول الأوروبية الكبيرة التى تبحث عن حل سلمى وسياسى للأزمة فى أوكرانيا، والتى لا تريد أن تنجر لنزاعات بين القوتين العظمتين، ولا تريد السير فى طريق العقوبات ضد روسيا، بينما لا ترضى هذه اللغة اليمين المحافظ فى واشنطن الذى يسعى لتأجيج العداءات مع روسيا ويسعى لإشعال الحرب فى أوكرانيا، وأيضا أنصار هذا اليمين المحافظ من بعض دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا، مثل بولندا ورومانيا وغيرهما، وأيضا لا ترضى هذه اللغة السلطة الحاكمة فى كييف التى جاءت للحكم بانقلاب على الشرعية الدستورية مدعوم فى الأساس من واشنطن.
أيا كان الأمر، فإن لغة المجاملات هذه بين موسكو وواشنطن تشكل جدلا كبيرا حول أهدافها يبدو أنه يصعب حسمه قريبا..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة