بينما يلهو الصبية على شاطئ البحر وتتعالى أصواتهم وهم يتسابقون لتحتضنهم أمواجه ويختلط رذاذه بأعينهم الضاحكة، جلس هو يرمقهم من بعيد.. عيناه طامعتان للحاق بهم ومشاركتهم لهوهم البرىء، وكلما تشجع واقترب وأخيرا مست قدماه الصغيرتان أطراف الأمواج المتكسرة وابتهج بإقباله على المتعة المنتظرة، تجددت مخاوفه ونزع قدميه بسرعة وعاد أدراجه مبتعدا عن الماء مكتفيا بالمشاهدة والتمنى
وكأن البحر ينتظر دخوله هو تحديدا ليبتلعه. ظل الصبى على هذا الحال المتردد حتى انقضى اليوم دون أن يبتل فى بدنه شىء إلا أطراف أصابع قدميه، رحل متحسرا وقد منعه خوفه غير المبرر من الاستمتاع بما استمتع به رفاقه الذين أقدموا ولم يهابوا، إن علاقة «الأعرافيين» بالطاعات تشبه علاقة هذا الصبى بأمواج البحر، يخشون أن يخوضوا غمار الطاعات ويهابون الإيغال فى القربات ولو برفق!
والأعرافيون هو اللفظ الذى اخترته لتسمية ذلك الصنف من الناس الذى ذكره الله فى السورة التى تحمل اسما شبيها، الأعراف.. المكان الذى يفصل بين أهل الجنة وأهل النار «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ» كانوا دائما بين بين.. يعرفون أهل الحق لكنهم مع معرفتهم لم يختاروا أن يكونوا معهم ويعرفون أيضاً أهل الباطل ويصحبونهم ويسكتون على باطلهم، لكنهم أيضا لم يختاروا الانحياز الكامل إلى صفهم، هكذا كانوا فى حيرة فى الدنيا.. وهكذا تستمر الحيرة هناك خارج الجنة.. حين يعرفون كل صنف بسيماه وعلاماته المميزة، وكما عرفوا أهل الجنة ونادوهم فإنهم كذلك يعرفون المجرمين أصحاب النار (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إنهم يخافون هذا المكان الموحش القاسى ويدركون أنهم ليسوا بمعزل عنه بسبب تقصيرهم وبعدهم عن طاعة الله وتذبذبهم بين هؤلاء
، وإن من الناس من يعيش حياته بنفس التذبذب، إنه نمط من الخلق لا يحدد وجهته أو يحسم أمره أو يفصل فى اختياراته فيسلك سبيلا إلى نهايته نمط يعيش على الأعراف فى الدنيا بين الحق والباطل ويُخشى عليه أن يكون من أهل أعراف الآخرة ومشكلتهم ببساطة تكمن فى الاختيار.. فى القرار الفصل، فى الحزم والحسم.. الأعرافيون لا يعرف عنهم فجور ظاهر أو معاص كبرى، آفتهم أنهم لم يقرروا ولم يتذوقوا، وإذا ذاقوا لم يغترفوا، وإذا اغترفوا لم يثبتوا، ولقد تركت الآيات مصيرهم معلقا كما كان قرارهم فى الدنيا معلقا، ولقد كان وقوفهم يوم القيامة طويلا فى المنتصف على الأعراف لأنهم فى الدنيا كانوا فى المنتصف أيضا.. نعم وردت الآثار بأنهم سيدخلون الجنة بعد حين لكن السؤال هنا.. متى؟! بعد كم عام من الانتظار؟! وأى عذاب نفسى هذا الذى يتعرضون إليه وهم ينظرون إلى البشر من حولهم يساقون إلى الجنة وإلى النار وهم باقون منتظرون خائفون ويطمعون، صحيح أنه عذاب نفسى لم يرد الخبر فيما نعلم أن عذابا ماديا يصاحبه، لكن فى النهاية هو أمر صعب استحقوه بتميعهم وتذبذبهم البارد وحرجهم من سلوك طريق الحق، فما أشد خوفهم وما أعمق حزنهم حين ينظرون إليها ولم يدخلوها وهم يطمعون تماما كما كانوا يرقبون السبيل فى الدنيا ولم يلجوه فاستحقوا ذلك المكان الموحش والشعور القاسى الذى لخصته تلك الجملة القرآنية الجامعة «لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ».. إنها جملة يظهر منها استشرافهم الجارف للدخول، ورغبتهم العارمة فى التنعم بنعيمها لكنه يومئذ سيكون- ولمدة لا يعلمها إلا الله- مجرد طمع لا يترجم لفعل كما لم تترجم ادعاءاتهم فى الدنيا لعمل حقيقى وانحياز واضح للحق، وحين ينقضى وقت العمل وقد زهدوا فيه من قبل فإنهم يدفعون الثمن من خلال ذلكم الشعور الموحش والرغبة الشديدة فى دخول الجنة، تلك الرغبة التى لم تكن بذات الوضوح هنا فى الدنيا حين لم يقرروا ولم يحسموا خيارهم فاستحقوا مكانهم هنالك.. فوق الأعراف.