من المؤكد أنى سأتعرض لهجوم تدعمه بعض الألسنة السليطة من أصحاب المصلحة فى انهيار مهنة الصحافة، وسيدعمهم أيضاً كثير من الصحفيين المخلصين والذين وقعوا- للأسف- فى شرك ثقافة ربط الانتماء للنقابة بمهنة الصحافة، وأصبح من أهم مقومات الصحفى أن يكون نقابيا أولا، وتأتى المهنية فى المرتبة الثانية كوظيفة إضافية لا يشترط وجودها لكى تحصل على تصريح العمل الصحفى، وهذا ما يفسر كثرة عدد النقابيين الذين لا ينتمون للمهنة لا من قريب ولا من بعيد.. ورغم توقعى لهذا الهجوم العنيف، فإننى من النوع الذى تظل قناعاته عالقة فى رأسه مؤرقة لكل ثناياه حتى تخرج كلمات غالبا ما أحصد بسببها المشكلات.
لا أنكر أهمية النقابات المهنية، ولا أنكر أهمية مظلة الحماية النقابية لأبناء المهنة، وخاصة فى مهنة مثل الصحافة، ولكنى أتحدث عن واقع متردٍّ يفرض علينا التفكير بطريقة خارج الحدود النمطية والبحث عن حلول غير تقليدية. عندما أنشئت نقابة الصحفيين فى 31 مارس 1941 كانت تعبيرا عن احتياج أبناء مهنة موجودة بالفعل، وهو ما يعنى أن التنظيم النقابى يلى فى المرتبة التكوين المهنى المكتمل الذى بدأت ملامحة تتكون قبل التفكير فى النقابة بأكثر من قرن، حيث عرفت مصر الصحف والمجلات، ومنها «الوقائع المصرية» عام 1828 و«الجريدة العسكرية» وأول جريدة اقتصادية «الجورنال الجمعى» عام 1833، كما عرفت فى هذه الفترة أيضاً صحف الجاليات الأجنبية وجريدة «لومنتيور اجبسيان» فى الإسكندرية، ومجلة «يعسوب الطب» المتخصصة فى الشؤون الطبية عام 1865، و«وادى النيل» أول جريدة شعبية عام 1867، والأهرام عام 1876.
وبدأ الاحتياج لنقابة تعبر عن أبناء المهنة الصاعدة فى عام 1891، وبتجاوز تفاصيل كثيرة استقر الأمر على إعلان النقابة فى 31 مارس 1941.. وظلت النقابة ملتقى للمهنيين يتناقشون فى الأمور المتعلقة بالمهنة، ولم يكن للنقابة أى تأثير أو تدخل فى الشأن المهنى بالمعنى الحرفى، فقد كانت المهنة تلقى صعودا حرفيا بحكم النشأة الطبيعية للصحفيين والذين كانوا ينتمون للمهنة عن رغبة حقيقية وقناعة تجاوزت رغبات المنفعة والربح والسلطة، ولهذا أطلق عليها فى حينه مهنة البحث عن المتاعب.. وظلت المهنة تعبر عن الأمة وفئاتها ويدفع أبناؤها الثمن حتى فترة ما بعد 1952 عندما بدأت حكومات ما بعد الملكية سياستها للسيطرة على الصحفيين من خلال نقابتهم، وظل جيل الصحفيين يتصدى لهذه المحاولات حتى أوائل الثمانينيات وشهدت النقابة معارك نضال شرسة فى هذه الفترة، إلا أن الفترة التالية شهدت
استراتيجية حكومية تعتمد على نظرية سيف المعز وذهبه، وتحولت النقابة إلى مكان خدمى للصحفيين يعتمد فى موارده بشكل رئيسى على رضاء النظام الحاكم وهباته، وزاد الطين بلة دخول بعض من رجال الأعمال مجتمع الصحافة لا بمنطق المصلحة الوطنية وإنما بمنطق المصلحة الذاتية حتى أصبح انتخاب ممثلى الصحفيين فى مجلس النقابة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما سينعم به على الصحفيين من عطايا رسمية وغير رسمية، وفى هذه الفترة، والتى شهدت أيضاً تحول تعريف الصحفى من ضمير الأمة إلى سلطة رابعة، شهدت بنية الجمعية العمومية للصحفيين خللاً شديداً، بعد أن انضم إليها أفراد ليس لهم أى علاقة بالمهنة، سواء من خلال الصحف الحكومية أو الخاصة الوهمية، وهو المخطط الذى أداره النظام
المباركى ببراعة شديدة فى الفترة الأخيرة، وكانت النتيجة النهائية أن أجيالا تسعى للانضمام إلى نقابة الصحفيين دون أى مقومات مهنية مشتاقين إلى المزايا النقابية التى ترعاها الحكومة والسلطة التى تيسر مهام ومصالح كثيرة، وأصبحت مجالس النقابات المتعاقبة تعبر عن هذا الحال أكثر من تعبيرها عن المهنة والدفاع عنها وتطويرها، بل إن بعض المجالس شهدت فى عضويتها أعضاء لا يستطيعون حتى كتابة حرف، ورغم أن المنطق العام يميل إلى إنشاء النقابات لتنظيم المهن فإن الظرف الخاص لنقابة الصحفيين يؤكد أن ارتفاع الانتماء للنقابة عن الانتماء للمهنة قد أضر بالمهنة وانهار بها.. كلمة حق ورزقى على الله.