لم يعد القطن المصرى كما كانوا يحتفون به من قبل، ويطلقون عليه اسم «الذهب الأبيض»، حيث إن الواقع المرير الذى تعيشه صناعة القطن الآن تؤكد- وبما لا يدع مجالًا للشك- أنه قد تحول إلى عبء ثقيل، ليس على الفلاح وحسب، بل على الحكومة أيضًا. ففى الوقت الذى اتخذ فيه وزير الزراعة، الدكتور صلاح هلال، قراره الشجاع بمنع استيراد القطن من الخارج، كخطوة من جانبه لرد الاعتبار لهذا المحصول الذى كان إلى وقت قريب يمثل أبرز مصادر الدخل القومى على الإطلاق، لم نكد نبدأ فى جنى ثمار هذا القرار حتى فوجئنا بعد 4 أيام فقط بتراجع الحكومة إلى الخلف، وذلك بصدور قرار صادم تم بموجبه إلغاء القرار الذى أصدره وزير الزراعة، فى إشارة واضحة إلى أن الدولة ما تزال تنظر إلى الفلاح باعتباره مواطنًا من الدرجة الثانية، ولكن الشىء المحزن حقًا أن تراجع الحكومة فى مسألة منع استيراد القطن من الخارج لم يأت من فراغ، إنما جاء تكليلاً لجهود حثيثة قام بها وزير الصناعة منير فخرى عبدالنور الذى نراه فى هذه المشكلة، وقد ظهر منحازًا بشكل لافت للنظر لوجهة نظر شلة من المنتفعين والمستفيدين من استيراد الأقطان من الخارج، وبالطبع فكلنا نعلم أن أصحاب المصانع القائمة على القطن المستورد لا يهمهم إن كان هذا القطن الذى يستخدمونه مستوردًا أم من الإنتاج المحلى، المهم بالنسبة لهم فقط هو تحقيق أكبر قدر من الربح، كما أن هذه المشكلة قد أظهرت مسألة أخرى فى غاية الخطورة، تتمثل فى تلك النظرة المتعالية من جانب وزير الصناعة الذى نراه دائمًا يضرب بمصالح الفلاحين عرض الحائط، مادام السماح باستيراد القطن من شأنه تحقيق مطالب أصحاب المصالح الخاصة من المستثمرين والمنتفعين من إلغاء قرار منع استيراد القطن من الخارج، حتى ولو تمت تلك الصفقات المشبوهة على جثة الإنتاج المصرى الذى نراه الآن وهو يتراجع بشكل كبير فى ظل إهمال متعمد من جانب الحكومة، بينما نرى فى الوقت نفسه الرئيس عبدالفتاح السيسى لا يدع مناسبة إلا وقد أكد مرارًا وتكرارًا حرصه على دعم الفلاح البسيط، وتوفير أقصى درجات الرعاية له من أجل توفير المناخ الصحى الذى يساعده على الارتقاء بالزراعة فى مصر باعتبارها أحد العناصر الرئيسية التى تقوم عليها عملية التنمية المنشودة.
لقد استوقفنى فى هذه المشكلة ذلك الموقف الغريب لوزير الزراعة، والذى رأيناه موقفًا سلبيًا وغير متوقع بالمرة، فعلى الرغم من أنه كان قد أصدر قراره فى الأساس من أجل صالح الفلاحين، خاصة أنه كان دائمًا يردد أنه «خادم للفلاحين»، فأين ذهب هذا الكلام؟، ولماذا لم يصمد طويلاً أمام توجهات وزير الصناعة التى كانت صريحة وواضحة، وتستهدف فى المقام الأول الدفاع عن مصالح أصحاب الصناعات المتعلقة بالغزل والنسيج؟، فهل هذا الصمت من جانب وزير الزراعة يأتى انعكاسًا لشعوره بأنه كمن ينفخ فى «قربة مقطوعة»، خاصة أن الحكومة قد خذلته برأى مخالف عن تلك التوجهات التى انتهجها منذ توليه هذه الوزارة المهمة، أم أنه لا يمتلك نفس الضغوط التى ظل يمارسها وزير الصناعة على الحكومة لإجبارها على اتخاذ قرارها بإلغاء القرار السابق لوزير الزراعة؟، وهو فى رأيى ما قد يرسخ لشبهة إدارة الدولة واقتصادها لصالح شريحة أصحاب التوكيلات، وكبار التجار والمستوردين دونما النظر لمصالح الفقراء من الشعب، خاصة الفلاحين، كما أن الدولة بهذا التراجع فى قرار منع استيراد القطن من الخارج نراها قد أهدرت كرامة القطن المصرى عن طريق السياسة المتبعة فى استيراد وتصدير القطن، وفى عملية البيع والشراء، كما أضاعت أيضًا كرامة الفلاح المصرى.
لكن الشىء المؤسف حقًا فى هذه الأزمة أن تلك القرارات تفقد الحكومة مصداقيتها لدى المواطنين. ويبدو أيضًا أن وزارة الصناعة والتجارة لديها الرغبة فى عودة الأنظمة القديمة والسابقة التى أضرت بالاقتصاد المصرى، حيث إن الوزارة تتذرع دومًا بأن هناك مصانع مصرية مغلقة، وفى حاجة الى أقطان مستوردة، وهو ما جعلها تلجأ للاستيراد، بغض النظر عن تقاعسها فى وضع آليات إعادة تشغيل تلك المصانع من أجل توفير فرص عمل للشباب.
واللافت للنظر أن وزير الزراعة حينما أصدر قرارًا بحظر استيراد القطن من الخارج، فإنه كان قد حدد مدة سريان هذا القرار لحين تسويق القطن المحلى بواقع كميات بلغت مليونًا و750 ألف قنطار عن مساحة مزروعة 249 ألف فدان بمختلف المحافظات، بالإضافة إلى تسويق مليون قنطار قطن محلى مخزنة فى المحالج للتجار بعد شرائها من الفلاحين العام الماضى، ولم يتم تسويقها حتى الآن، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن الإنتاج الكلى لمصر من القطن خلال الموسم الحالى بلغ نحو 1.9 مليون قنطار، وسجلت صادرات القطن المصرى تراجعًا بأكثر من 21 فى المئة خلال الربع الثانى من العام الحالى، وقرار إعادة استيراد القطن من الخارج يعصف بالمنتج المحلى من القطن المصرى، وهو ما يدفع كثيرًا من مزارعى القطن المصرى إلى عدم التفكير فى زراعته مرة أخرى، فلمصلحة من وصول تلك الأزمة إلى هذا الحد من الارتباك، وإلى هذا المستوى الشديد التعقيد؟، فالقرار الذى أصدره مجلس الوزراء بعودة استيراد القطن من الخارج يعد فى حد ذاته استسلامًا من الدولة، ورضوخًا لطلبات وأوامر رجال الأعمال والغرف التجارية.
لذا فإن استمرار هذا الوضع على هو عليه الآن يعنى أن الحكومة تستغنى عن زراعة القطن، وذلك بعد أن تقلصت رقعة الأرض الزراعية من 2 مليون فدان إلى ما يتراوح بين 150 و200 فدان لزراعة القطن الذى يواجه بالفعل أزمة تسويق حقيقية ولابد من حلها، مما يتطلب تدخل المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، لإنقاذ القطن المصرى، بعد تراجع المساحات المزروعة كل عام بسبب عزوف بعض الشركات عن الشراء، مما أجبر المزارعين على بيع المحصول بأرخص الأسعار، وهو ما يستوجب القيام على الفور بتطبيق الزراعة التعاقدية بعقود محررة بين المزارعين والشركات قبل الزراعة لضمان تسويق المحصول، وسعر ضمان للقطن، وليس أسعارًا استرشادية.
وأنا على يقين تام بأن قرار حظر استيراد الأقطان من الخارج هو قرار جرىء، خاصة بعد أن تخلت الشركة القابضة للأقطان، وشركات القطاع الخاص عن شراء القطن العام الماضى، مما جعل المزارع عرضة للاستدانة بعد أن تواصلت مشاكل المزارعين مع أزمة تسويق الأقطان، على الرغم من تكرار وعود الحكومة بحلها على الفور لتعويض الفلاح عن التكاليف الباهظة التى يتم إنفاقها على الفدان، والتى تصل فى بعض الأحيان لأكثر من 8 آلاف جنيه.
يا سادة.. إن الدولة التى يتدهور فيها إنتاج القطن يجب عليها أن تراجع سياستها تجاه التعامل مع ذلك النوع من الأقطان التى تعد من أهم وأجود المنتجات بالعالم، كما أن القطن كان وما يزال وسيظل من قضايا الأمن القومى المصرى.