«أيهما أحق أن يُغتفَر.. الظلم أم الكذب؟»
سمعت هذا السؤال أول مرة فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى من إبراهيم عبدالله فى مسلسل «أديب» الذى هو نور الشريف فى الحقيقة، ومن يومها لم يفارقنى لا السؤال بكل ما يحمله من فلسفة عميقة، ولا صورة نور عبقرى الأداء فى دور إبراهيم عبدالله، الدميم شكلا، والعبقرى عقلا، والقلق نفسا، والمتوهج بالأسئلة الوجودية التى ليس لها جواب، ومن ضمنها سؤال: أيهما أحق أن يغتفر.. الظلم أم الكذب؟
ذاب نور الشريف فى شخصية إبراهيم عبدالله فبدا كما لو أنه هو هذا العبقرى، القلق، الدميم، وأتذكر أن نور نفسه اعترف بأنه ظل لمدة تقترب من الشهر بعد انتهاء المسلسل، يمشى بنفس الانحناءة التى كان يمشى بها إبراهيم عبدالله، وكانت عيبا خلقيا فيه.
هو الصدق فى الأداء الذى كان أقصر طرق نور للوصول إلى قلب الناس، لكن ميزة نور أن صدقه كان مسلحا بالمعرفة، هو لم يعتمد على موهبة فطرية ولدت وكبرت معه، وإنما كان موهوبا أيضا فى إدارة ما لديه، سمعته أكثر من مرة يتحدث عن عباقرة فى فن التمثيل، لم يفهموا الآثار التى تتركها السنون عليهم، ففشلوا فى حفر مجرى جديد لهم، وظلت صورتهم لدى الجمهور محجوزة على فترة معينة لا تغادرها.
وعى نور هذه المسألة وأضاف إليها بثقافته العظيمة وإدراكه أن التنوع فى الأداء هو الذى يضيف رصيدا يحفظه التاريخ بمحبة وافرة، ولهذا كان فى «أديب» غيره فى «الرحايا» وغيره فى «لن أعيش فى جلباب أبى» و«عائلة الحج متولى» و«عمر بن عبدالعزيز» و«هارون الرشيد» و«عمرو بن العاص»، وكان «كمال عبدالجواد» فى ثلاثية نجيب محفوظ غير «حسن» فى سواق الأتوبيس غير «زمن حاتم زهران» غير «الزمار» غير «كتيبة إعدام» غير «ناجى العلى» غير «قلب الليل» غير «العار» غير «البحث عن سيد مرزوق» غير «الإخوة الأعداء» غير«أهل القمة» غير كل أدواره مع العبقرى «يوسف شاهين».
عشرات الأدوار الأخرى قدمها نور الشريف، وتشهد جميعها أننا كنا أمام فنان من العيار الثقيل يبحث عن التفرد ويجتهد للوصول إليه، يتحدث عن نفسه بتواضع شديد، وغيره بمحبة ونبل، وإنسان مثقف ثقافة رفيعة جعلته حاضرا أمام نفسه فى دقة اختياراته السينمائية وتنوعها، وحاضرا فى كل قضايا وطنه بانتمائه القومى العروبى، فقد كان ناصريا أصيلا، وظل يفتخر بذلك طوال حياته.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة