«طول ما الباب متوارب ممكن ييجى عليك الوقت وتدخل».. كانت هذه المقولة المستندة على رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، من أهم المقولات التى سمعتها فى بداية حياتى، الرواية تقول إن الإمام أحمد رأى بالمسجد رجلا مشهورا بالسرقة وقطع الطرق، رآه الإمام أحمد يصر على التواجد بالمسجد من حين إلى آخر فتعجب لحاله وسأله عن ذلك فقال: يا إمام، بينى وبين الله أبواب كثيرة مغلقة، فأحببت أن أترك بينى وبينه باباً مواربا.. لم تكد تمر أشهر معدودات حتى لقيه الإمام أحمد متعلقا بأستار الكعبة متضرعا نادما تائبا عن خطاياه منيبا إلى مولاه.. قيل إن الرجل حسنت توبته بعد ذلك ولم يعد إلى ما كان عليه حتى مماته، ترك بابا مواربا ففتح الله له به كل الأبواب.
سواء صحت تلك الرواية أو كانت من كلام الوعاظ والقصاصين، فإنها تلخص قاعدة من أهم القواعد التى ينبغى للمؤمن أن يتبعها مع نفسه الأمارة بالسوء، وأن يتبعها المربون والداعون إلى الله فى التعامل مع نفوس الآخرين إذا هم أخطأوا أو قصروا أو حتى أداروا ظهورهم وابتعدوا، الفكرة باختصار هى أن تترك حبلا ممدودا بينك وبين سبيل الاستقامة وطريق الصلاح، وألا تغلق الباب ولا توصده فى وجوه الناس عساهم يوما يدفعونه وتتحول الفتحة اليسيرة أو المواربة إلى انفراجة وفتح وعظيم يعود المرء من خلالها إلى رحاب مولاه. ربما يبدو للبعض أن وجود هذا الباب الموارب وهذا الحبل الممدود للصلاح يعد نوعا من التناقض إذا ما اجتمع مع صنوف العصيان وألوان التقصير الأخرى، وهو فعلا شىء من التناقض لكنه بالمقارنة ببديله = تناقض محمود، البديل هو الانفلات الكامل والفجور المطلق! أى منطق يقول إنه هروبا من وصف متوهم بالنفاق فإن مطلق الفجور والانفلات أفضل.
إن هذا الخلط بين العمل الصالح والعمل السيئ ليس دائما نفاقا، فللعمل الصالح بريقه الذى قد تحجبه طويلا طبقات الران وحواجز الشهوة والعصيان وضجيج الأهواء والشبهات، لكن قد تأتى لحظة يسود مشهد القلب ذلك البريق، هنا ينفتح الباب الموارب ويلج العبد تائبا وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة التوبة 102] هكذا حدثنا ربنا فى كتابه عن هذا الصنف من الناس.. أولئك الذين يصرون على ترك الباب مواربا ويأبون الانغماس الكامل فى المعاصى والأهواء وإن ضعفوا أمامها أحيانا، قد يكون هذا الباب الموارب صحبة صالحة يحرص عليها العاصى ولا ينبغى للصالح أبدا أن يصده عنها لعله يدخل من خلالها يوما ما.. وقد يكون هذا الباب الموارب طاعة يحرص عليها وإن صغرت فى نظرك لكن لعلها ببركة صدقه تكون سببا فى هدايته، قد تكون صلاة صبح فى جماعة عقب ليالٍ امتلأت بالغفلة والنسيان وربما العصيان، لكن بإذن الله يوما ما ستنهاه تلك الصلاة التى حرص عليها ولم يغلق بابها، وقد تكون صدقة سر وصنيعة معروف يواظب عليها لتقيه مصرع السوء أو بدعاء ذلك المسكين الذى أطعمه أو الفقير الذى أعانه فينال العاصى هداية ورشادا.. المهم أن يبقى الباب مواربا.. وألا تحقرن من المعروف شيئا، فالحسنة ولادة وحسن الظن عبادة، لا تقل لنفسك كيف تطيعين وأنت بين كل هذه المعاصى؟ ولكن قل كيف تعصين وقد شرفك الله بهذه الطاعة؟ ولا تحقرن طاعة يسيرة صدرت من عاص بل شجعه عليها وشاركه فيها لعلها تسود ومن خلالها يعود، لا تحقرن عاصيا ضعُف أمام شهوته، فبينما ينام البعض وابتسامة عجب عريضة ترتسم على وجوههم مستعلين بطاعتهم، قد ينام هو ودمعاته تنساب على وجهه ندما على ما فرط فى جنب الله فتسبق به دمعته التائبة النادمة ويفرح ربه بأوبته الباكية، الخلاصة.. لا تغلق كل الأبواب، ولا توصد كل مزلاج، ولا تقطع كل الحبال، وأدمن الطرق.. وبإذن الله سيفتح لك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة