«أصيلة» مدينة مغربية صغيرة، تزخر بالآثار والثقافة والعلم، والأهم أن أهلها يعشقون ترابها واسمها وإطلالتها على المحيط وعروبتها، ولم يكتف أهل «أصيلة» بكتابة الشعر الجميل أو إنتاج أغنيات ساذجة عن حبهم لها، إنما اشتغلوا بجدية ووعى وحولوها إلى مدينة سياحية بامتياز، نظيفة ومنظمة، وأيقونة للثقافة العربية وللحوار بين كل الحضارات.
تنظم «أصيلة» سنويًا، ومنذ 37 عامًا، مهرجانًا ثقافيًا سنويًا، دعت إليه أهم المفكرين والباحثين العرب والأجانب، وناقش المهرجان كل القضايا ذات الاهتمام العربى والدولى، مع تقديم أنشطة فنية متنوعة، كشفت عن مواهب جديدة من داخل المغرب وخارجه. هكذا امتلكت «أصيلة» قوة ناعمة، ورأس مال رمزيًا هائلًا، يتجاوز حدود المدينة المكانية والاقتصادية، ولا يتوافر لوزارات الثقافة فى الدول العربية، والتى تقيدها البيروقراطية والعقول الجامدة. مسيرة «أصيلة» الثقافية الناجحة قادها بوعى وإبداع المثقف محمد بن عيسى، الوزير السابق للخارجية والثقافة المغربية، ابن المدينة، والذى لم ينعزل عن العمل العام، حيث انتخب وبالإجماع رئيسًا للمجلس البلدى لـ«أصيلة»، ما مكنه من مواصلة دوره فى قيادة وتنمية مهرجان «أصيلة». شارك فى دورة المهرجان هذا العام ممثلون لـ45 دولة، وجرت كالعادة أنشطة كثيرة، منها أربع ندوات عن: «نحو حرب باردة عالمية جديدة»، و«العرب نكون أو لا نكون»، و«العرب غدًا.. التوقعات والمآل»، و«الإعلام العربى فى عصر الإعلام الرقمى»، بالإضافة إلى ندوة محورية حول «الفيلم والرواية فى سينما الجنوب»، وندوات أخرى فى مجالات الشعر والأدب والفن التشكيلى، وغيرها.
شاركتُ فى ندوة الإعلام التى شهدت نقاشات ساخنة، لكنها عقلانية، عن علاقة الإعلام التقليدى، خاصة الصحافة المطبوعة، بصحافة الأونلاين، وموقع الإعلاميين العرب من التحولات فى بيئة الإعلام، وهل تمكنوا من مسايرة التقنيات الجديدة أم لا، حيث كشف النقاش وجود مقاومة من كثير من الإعلاميين العرب للإعلام الجديد، لدرجة أن بعضهم يرفض تلقى التدريب أو التحول من الكتابة على الورق للكتابة على الحاسوب، فضلًا على انتقاد الإعلام الجديد، واتهامه بعدم الدقة وانعدام المصداقية. ومع ذلك اتفقت أغلبية الحضور على أن المستقبل للإعلام الجديد، وأن على أنصاره ألا يتعاملوا باستخفاف أو ترفع مع الإعلام التقليدى، لأن هناك إمكانية للتعايش بين الإعلام الجديد والإعلام التقليدى.
لكن من وجهة نظرى، أعتقد أنه لا مجال فى المستقبل لهذا التعايش، فالإعلام الورقى إلى زوال، كذلك التليفزيون بشكله الحالى، فهناك توقعات بانتشار مشاهدة التليفزيون على الهواتف المحمولة مع ابتكار أشكال للتفاعل الفورى، علاوة على ظهور شاشات يمكن للمشاهد من خلالها أن يتلمس بيديه تفاصيل الصورة التى يشاهدها! وربما يشم رائحة الطعام الذى يظهر فى برامج الطهى!، وكل هذا التحولات المتوقعة لابد أن تغير من علاقة الجمهور بالمؤسسات الإعلامية الخاصة والعامة. وهنا رصدت الندوة استمرار أنماط التعامل القديمة، وعدم إشراك الجمهور فى وضع السياسات التحريرية، أو احترام قدراته على إنتاج الأخبار والتفاعل حولها، وبالتالى طالب البعض المؤسسات الإعلامية العربية بإشراك الجمهور، والاعتراف بأهمية «إعلام المواطن» والاستفادة منه، وابتكار برامج تدريبية أو أشكال برامجية تستوعب رغبات بعض المواطنين فى المشاركة فى تغطية الأحداث، وإرسال الصور والأخبار إلى المؤسسات الإعلامية، فضلًا على الارتقاء بقدرات المواطنين على التعامل النقدى مع وسائل الإعلام. أخيرًا، ظهر اتجاه قوى يطالب باحترام حرية الإعلام الجديد، وعدم فرض أى قيود غير قانونية على فضاء الإنترنت الذى يشكل مجالًا عامًا افتراضيًا يساعد فى التطور الديمقراطى والتنمية، وإذا كانت الجماعات الإرهابية تستخدم الإنترنت والإعلام الجديد فى تجنيد بعض الشباب، فإن المواجهة لن تكون من خلال المصادرة أو الرقابة على الإنترنت، لأنها غير ممكنة عمليًا وتكنولوجيًا، ولا يوجد حل سوى استمرار حرية الإنترنت، مع مزيد من النقاش العام الذى يفضح الفكر الإرهابى ويفند أكاذيبه.