أتانى صوتها متهدجا ًعبر التليفون.. عرفتنى بنفسها فلم أعرفها.. قالت: إننى وزوجى قد اقترضنا منك مبلغا وقد مات زوجى وأريد سداده.. فمتى ستذهب للعيادة؟ قلت لها: ليلا إن شاء الله؟.. قالت: أنا فى العدة ولا أستطيع الذهاب للعيادة بالليل لأنى أسكن فى منطقة بعيدة؟. قلت لها: يا سيدتى.. لا داعى أن تأتى نهائيا فأنا لا أتذكر هذا الدين ولا هذه القصة.. وأنا تنازلت عن الدين فاستعينى به على تربية أولادك. كانت سيدة بسيطة لا تدرك إننى أبرأت زوجها من هذا الدين بهذه الكلمات.قالت: إن رد المبلغ واجب على.. حتى يستريح زوجى فى قبره كما قال لى الشيوخ. قلت لها: يا سيدتى أنا لا أذكركما وتنازلى عن المبلغ يسقط الدين عنه وينفى الحرج عنك. لم تقتنع بذلك وأصرت على الحضور للعيادة.. جاءت إلىّ معبرة عن اندهاشها لنسيانى لها وللمرحوم زوجها.. دفعت إلىّ المبلغ فى تصميم عجيب.. حاولت إقناعها مرات بأننى تركته لها ولكن دون جدوى.. أخذته منها ثم أعطيته إياها فأخذته وقتها على استحياء وكأن هذه هى الطريقة الوحيدة للتنازل الشرعى فى عرفها البسيط. قالت لى: لقد جمعت كل ديون زوجى من صدقات وتبرعات الجيران والأحبة. قلت لها أليس عيباً أن تكونى فى حاجة للمال ثم تصرين هذا الإصرار.. فكرت فى أمر هذه المرأة البسيطة والفقيرة التى تصر رغم حاجتها على سداد الدين إبراءً ووفاءً لزوجها.
تذكرت وقتها مئات النماذج الثرية المماطلة والبخيلة جداً فى الوقت نفسه والتى تماطل دائنيها سنوات ولا ترد ديناً على الإطلاق إلا وهى على عتبات السجن.. تذكرت ذلك التاجر الغنى جدا الذى لا يرد أبدا على تليفونات دائنيه رغم أن هذه الديون بسيطة جدا حتى قال بعض الماكرين لأحد دائنيه الذى تهرب منه سنوات ليس أمامك سوى أن تنتظره أمام البيت بعد منتصف الليل.. وآخر قيل لدائنيه أدركه فى صلاة العصر وهو يعطى الدرس لتلاميذه وقل له أمامهم هذا الرجل لا يسدد دينا تافها عليه منذ سنوات.. فلما فعل ذلك هم أن يقبل يده ألا يفعل وأعطاه المبلغ كاملا مباشرة وقد «سقاه المر» أعواما كما يقول عوام المصريين. قلت لها: ألم يكن زوجك شاباً؟!! قالت: نعم ولكنه أصيب بعدة أمراض مزمنة مات على إثرها وتركنا دون أى تأمين لمستقبلنا.. فقد كان يعمل فى الوكالة. قلت لها: أنا أعلم أن زوجك كان مريضا ولكننى لم أتوقع وفاته. قالت: هكذا الحياة كلما هممنا أن نستريح فيها داهمتنا بخطوبها ومصائبها. سادت فترة صمت كأنما تتهيأ لخبر خطير ثم فجرت المفاجأة التى هزتنى من الأعماق حيث قالت: لقد بعت كليتى اليمنى بخمسين ألف جنيه من أجل أن يكون لى شقة تمليك خاصة بى وابنتى. ذهلت لهول الخبر فقد سمعت كثيرا عن بيع الكلى من الفقراء.. وكان المرحوم محمد إسماعيل ابن خالتى مريضا بالفشل الكلوى وظل يبحث عشرين عاما عن متبرع أو بائع لكليته ولكنه مات قبل ذلك. وقد حكى لى رحمه الله عن السوق الرائجة للتجارة فى بيع الدم أو الكلى أو أشباهها والتى تديرها بعض معامل تطابق الأنسجة أو المستشفيات التى تقوم بزرع الأعضاء. وفى الحقيقة لم أصدق أن فقيرا يبيع كليته من أجل أن يسدد دينه أو يشترى شقة حتى قابلت هذه الأرملة التى أخبرتنى أنها أرادت أن تؤمن حياتها وابنتها فى العيش فى شقة تمليك وأن صاحب العقار قدر ظروفها ويسر لها الأقساط وقبل تملكها للشقة بالخمسين ألفا التى استلمتهم مقابل كليتها على أن تدفع فى أى وقت شاءت باقى الثمن وهو 15 ألف جنيه.
قلت لها: إذا كنت فى هذه الحالة من البؤس والفاقة فلماذا الإصرار على رد الدين؟.. وصاحب الدين لا يذكره. قالت: هذه أمانة.. ولابد أن أؤدى الأمانات إلى أهلها.. والحقيقة لم أتوقع نسيانك لنا. ثم أردفت قائلة: وكيف حال ابنتك التى كانت مريضة بالقلب وطلبت منا وقتها الدعاء لها قبل إجراء الجراحة لها؟!! انتبهت لحظة على سؤالها وقلت: تقصدين «نوران» رحمها الله فقد توفيت بعد إجراء الجراحة بيوم وقد مرت سنوات طويلة على ذلك.. ومرت بى وبمصر وبالمصريين أحداث يشيب لها الولدان بعد ثورة 25 يناير حتى الآن وهذه الأحداث الجسام أنستنا «نوران» وكل شىء. قالت: ها هى صورة زوجى رحمه الله.. هل تذكرته الآن.. قلت: نعم يا سيدتى. غادرتنى السيدة بعد أن شكت لى من أنها تشعر بألم مكان الكلية المستأصلة.. تبين فيما بعد أنه فتق فى مكان الجراحة الأولى. تفكرت مليا فى هذا النموذج من الشعب المصرى الذى ضاقت به السبل فلا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا فيضطر لبيع جزء من جسده ليحيا تحت سقف شقة تسعد بتملكها. قلت لنفسى: كم مصرى باع كليته أو دمه أو أجرى عشرات من عمليات توافق الأنسجة مقابل دراهم معدودة.. وكم من مريض مزمن امتهن مهنة عجيبة «أن يفحصه طلبة البكالوريوس أو الماجستير وخاصة فى كليات الطب الخاصة مقابل مبالغ مالية لينفق على مرضه من جهة وأسرته من جهة أخرى». وفى المقابل كم من أصحاب المليارات لا يريد أن يرد للدولة حقوقها أو يرد للشعب بعض أمواله التى سلبها منه أو يتبرع بجزء منها. وكم من موظفى الدولة عادوا إلى الرشوة والتربح الحرام من وظائفهم أكثر بكثير مما كان يحدث قبل الثورة.. وأصبحت البجاحة فى عيونهم أفظع وأخطر؟!