حالة السيولة هى الحالة التى يمكن أن أصف بها الجماعات التى تمارس العنف فى القاهرة الكبرى على وجه الخصوص، كنت قد استخدمت منذ وقت طويل تعبير «السلفية السائلة» لأشير به إلى المجموعات السلفية التى تتبنى الفكر السلفى الجهادى على المستوى النظرى دون أن تنخرط عمليا فى ممارسة العنف.
وقصدت بذلك المجموعات التى وصفت نفسها بـ«حازمون»، وأيدت حازم أبو إسماعيل، أو من أطلقوا على أنفسهم و«التيار الإسلامى العام» والذين تأثروا بشكل أساسى بأفكار رفاعى سرور، وهو قيادى جهادى لم يحصل على شهادة عليا وتأثر بأفكار سيد قطب فى وقت مبكر، وكانت أفكاره تفتقد للوضوح وتتسم أيضاً بالسيولة والمزج بين السلفية والقطبية.
السيولة فى الواقع تعنى غياب التحديد والوضوح والعجز عن بناء ملامح للشىء الذى تتبناه أو تدافع عنه، أنت تدافع عن شىء لكنك لا تحسن شرح الأفكار الذى يستند إليه، وبالتالى نحن أمام مشاعر غضب واحتجاج مندفعة على الطريق العام والأسفلت تحتاج لمن يؤطرها أو يحولها إلى شكل معين، وهو ما لم يحدث لتلك التعبيرات الاحتجاجية السائلة التى لا ترقى إلى مستوى وصفها بحركة اجتماعية بمعناها السوسيولوجى العلمى كما نتعاطى معه فى العلوم السياسية.
تلك الأشكال السائلة للفعل الاجتماعى تغيب عنها الأيديولوجية، نحن لا نرى أيديولوجيات ولكن نرى مشاعر واتجاهات للعنف ذات الطابع الإرهابى، كما لا نرى أشكالا لبنية تنظيمية وإنما نرى شبكات مترجرجة غير محددة وربما متداخلة لا يمكننا أن نضع أيدينا عليها لنفهمها، هى مجرد فعل إرهابى يمثله ماكينة باحثة عن التدمير والعنف ذات الطابع الإرهابى الذى وصفناه بالإرهاب الإجرائى، لأنه ليس له معنى ولا يحمل عقلا يفسر لنا مقاصده مما يقدم عليه من أفعال إرهابية.
السيولة التى أسست لشبكات العنف تلك كانت فى الميادين بعد الثورة، ولم تكن تلك الجماعات قد شاركت فى الثورة أو كان لها حضور فيها، لأنها لا تؤمن بمنطق الثورة ولا الفعل الجماهيرى وإنما تؤمن بالعمل التنظيمى المغلق الذى يستخدم العنف والإرهاب بقصد وحشى وتدميرى.
جاءت هذه المجموعات الميادين بعد نجاح الثورة فى إسقاط مبارك وقدر لى الدخول فى نقاشات سوف نطرحها على الرأى العام فى حينها، وتكونت شبكات من هذه المجموعات فى الأحداث الملتبسة كما فى حالة محمد محمود والعباسية والأحداث الأخرى المرتبطة بطريق النصر والحرس الجمهورى ثم اعتصام رابعة الذى استمر ما يزيد على الأربعين يوما.
وسافر عدد من تلك المجموعات إلى سوريا وتدربوا هناك وعادوا بعد 30 يونيو إلى مصر، لا تزال تلك المجموعات السائلة والشبكات المتداخلة تعمل حتى اليوم، وهنا أستخدم تعبيرا استخدمته من قبل اسمه «الشبكات المخفية»، هذه الشبكات المخفية تكتنز عنفها حتى يجرجرها محفز للانتقال من الخفاء إلى العلن والحركة عبر عملية إرهابية كما حدث فى حالة الأمن الوطنى فى شبرا الخيمة، وهو هدف مهمل ولكنه مغر لتلك الشبكات المخفية التى جرى دفعها من خلال التحريض والتحفيز للدخول لمعترك الإرهاب بلا خبرة ولا جسارة التنظيمات الكبرى كتنظيم بيت المقدس، وهنا ومع عجز تلك المجموعات الجديدة عن تعريف نفسها فإن داعش يوظف عملياتها لصالحه، كما أنها تقبل بذلك التوظيف لأنها تحتاج لمظلة تعبر بها عن عنفها دون أن يكون لديها القدرة على ذلك عبر الإعلان والإعلام.
هذا مفتاح لفهم المجموعات الداخلة حديثا للعنف، وبقدر ما تعكس العملية حداثة وخبرة من نفذوها وإمكان توظيفهم من تنظيمات كبرى كبيت المقدس إلا أن ذلك يعكس تحديا لأجهزة أمن لا تزال بعد غير مؤهلة لبيئة غير مستقرة للعنف وتتسم بالسيولة وعدم التحديد والوضوح، إن معركة مصر مع الإرهاب ليست سهلة ولكنها تسير إلى الأمام، لا نريد خداعا فالمعركة طويلة وتحتاج ليقظة لا تدفعنا إلى ترك أهداف مهملة تغرى الإرهابيين أن يسجلوا أهدافا فى شباكنا.