من الأشياء المألوفة لدى المتعاملين مع أجهزة الكمبيوتر، ذلك الحول الذى يصيب البرامج المضادة للفيروسات (antivirus).. برنامج (الأنتى- فايرس) الموضوع على جهاز الكمبيوتر لحمايته يتعرف أحيانا على بعض البرامج الأخرى الموجودة فى الجهاز على أنها فيروسات ضارة، رغم أنها ليست كذلك، بعدها يصدر البرنامج إنذاره الشهير ويمحو تلك البرامج من تلقاء نفسه أو يصدر رسائله المتكررة مطالبا مستخدم الجهاز بالمسارعة بمحو تلك الفيروسات المتوهمة..
يشتهر حدوث هذا الخطأ مع ملفات تعرف باسم (الكراك)، ويرجع ذلك الخطأ إلى الطبيعة الآلية التى تتعامل بها برامج الأنتى فايرس فلا تفرق بين الأشباه ولا تميز بين النظائر فتخلط بين تلك الأشياء التى تملك بعض الخواص المشتركة، جسم الإنسان أيضا يصاب أحيانا بحالات شبيهة تصيب جهازه المناعى فلا يحسن التعرف على العدو ولا يفرق بينه وبين الصديق، يظهر ذلك بوضوح عند زراعة عضو ما فتتعرف عليه الخلايا المناعية بالجسم على أنه جسم غريب، وتبدأ فى لفظه ومحاولة طرده لذلك يعطون أدوية مثبطة للمناعة للمريض الذى قام بعملية زرع عضو تفاديا، لذلك النفور والحرب المتوقعة من الجهاز المناعى، وقد يحدث الأمر مع أعضاء الجسم نفسه، فيما يعرف بأمراض المناعة الذاتية Autoimmune disease وهى مجموعة من الأمراض تزيد فى بعض الإحصاءات على ثمانين نوعا، وتشير التقديرات إلى أن أمراض المناعة الذاتية هى من أبرز عشرة أسباب للوفاة خصوصا بين النساء.
هذه الأمراض المناعية الذاتية تحدث نتيجة فشل الجهاز المناعى فى التعرف على الأعضاء والأجزاء الداخلية الخاصة به، حيث لا يميز البصمة الوراثية ولا الطبيعة الخاصة بخلايا الجسم فيتعامل معها كأنها غريبة عنه ويبدأ بمهاجمتها وإعلان الحرب عليها؛ تماما كما يهاجم الفايروسات والأمراض التى تقتحم الجسم باستخدام خلايا المناعة والأجسام المناعية، يسبب ذلك أضرارا شديدة بالجسم قد تتركز فى عضو واحد أو قد تهاجم مجموعة من الأعضاء فيسبب مرضا أو متلازمة أمراض.. فإذا هاجم جهاز المناعة مثلاً صمامات القلب، تحدث حالات حالات الحمى الروماتيزمية (Rheumatic fever) وقد يهاجم المفاصل فيشوهها مسبباً الداء الرثيانى أو الروماتويد Rheumatoid arthritis، وقد يهاجم جهاز المناعة أكثر من عضو بالجسم فى الوقت نفسه، كما فى مرض الذئبة الحمراء Systemic Lupus erythematosus.
هذا الكلام الذى قد يبدو للبعض معقدا أو تخصصيا لا يلزمهم معرفة تفاصيله، أراه مهما لفهم تلك الحالة التى وصل إليها كثير منا اليوم، حالة فقدان القدرة على التمييز واستسهال صناعة القوالب العدائية الجاهزة التى تسع كل الأشباه والنظائر لمجرد اشتراكهم فى جانب أو جوانب، المصابون بتلك الحالة من فقدان التمييز والتفريق ليس لديهم بدائل كثيرة.. فقط بضعة قوالب محدودة وسلال معدة لإلقاء كل يختلف معهم فيها بمجرد أن تسول له نفسه أن يبدى اختلافه..ولهذه السلال والقوالب عناوين قليلة لا ينجو منها من قرر أن يختلف أو يكون له رأى مغاير لما قرره فاقدو التمييز من كل اتجاه، نعم.. لكل اتجاه فى واقعنا المعاصر عناوينه المحدودة والمعدودة التى يقولب فيها خصومه ومخالفيه وبمجرد إبداء ذلك الخلاف يقذف بهم إلى تلك السلال المعدة مسبقا لمن تعرف عليهم جهاز استشعاره (غير الدقيق) وصنفهم على أنهم أعداء وقرر أن يلبسهم أثواب اتهاماته ويلفظهم من تلك الحياة التى قرر أنها مناسبة لواقع الذى يراهم لا يستحقون العيش فيه لا يعنيه بعد ذلك أن تكون أثواب اتهاماته فضفاضة لا تناسبهم ولا تفرق معه تلك الفوارق التى قدر الله أن تكون بين خلقه، المهم أنه لاحظ شبها بينهم فليصدر إذاً برنامجه الضيق حكمه وليقرر أن مكانهم سلة من تلك السلال المعدودة وبسرعة فليس لديه الوقت ولا القدرة على استئناف النظر أو مراجعة الحكم أو تغييره! المناعة الذاتية التى أصيب بها فكره لا توفر له ترف التمييز ولا تسمح له إلا بهذا التصنيف الآلى الممل الذى يؤهله بجدارة لأن يصير فى نهاية المطاف مجرد.. أنتى- فايرس.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة