فى كل مراحل التاريخ المستقرة يهدأ الناس قليلا ليراجعوا ماذا ضيعت منهم الحروب والكوارث والثورات من أرواح وكنوز حضارية، لا تثريب على الأرواح التى ذهبت فسيستعيد أطباء الولادة توازنهم بسرعة مع بدء عمليات إعادة الإعمار، حتى كاتب التاريخ أيضا لا يخشى الشعور بالملل فهو يعرف أن العالم سيبدأ بعد قليل مرحلة أخرى من التدمير، لكن تبقى الندوب الحضارية المتمثلة فى سرقة الآثار وهدم الشواهد ومحو الأثر الثقافى، أكثر الجروح إيلاما فى جسد البشرية، فعندما غزت أمريكا العراق فى عام 2003 لم تطلق الفتنة فقط بين السنة والشيعة، لكنها أيضا تركت اللصوص تعبث فى حنايا آلهة القمر وآثار مدينة «أور» وموطن ولادة الخليل إبراهيم عليه السلام، وشوهت ملامح واحدة من عجائب الدنيا السبع، حتى إن بلقيس تشمئز من أن تكون «أجمل الملكات فى تاريخ بابل» كما وصفها نزار قبانى.
الآن.. فى «تدمر والموصل ونينوى وحلب وطرابلس وقورينا»، كل التراث الإنسانى الذى تباهى به العرب الأوائل والأواخر يتعرض لأبشع عملية سرقة وتحطيم همجى من تنظيم أراد أن يعيد أمجاد الخلافة، فلما فشل قرر أن يشكل وحدة تدميرية دينية «ما يغلبها غلاب»، بينما الغرب المتحضر يجتمع صباحا ليدرس كيفية التصدى لهمجية داعش، ويناقش خبراؤه ليلا فى طريقة لفرض ضرائب على عائدات الآثار المهربة من بلاد العرب البائدة، بينما الدولة الوحيدة التى كان العرب يظنون أنها تفهم أكثر فى الآثار «محتاسة» حاليا فى استعادة تمثال خرج منها فى غفلة الزمن والقانون والضمائر ورجال الجمارك.
التمثال سخم كا، لم يكن الصفعة الوحيدة التى تلقتها الحضارة المصرية على يد المهربين والمحرومين من التراث، فليس عبثا أن تتهافت الدوحة على التمثال فإن حصلت عليه فأهلا به إلى جوار إخوته فى متحفها الذى تفوح منه رائحة الدولار، وإن لم تحظ به فلا بأس أن تحرج شقيقتها الكبرى قليلا وتغرمها كثيرا من الدولارات كان أولى أن تدفعها لموردى القمح احترازا لأيام عجاف.. أعجبتنا كثيرا دروس التاريخ التى علمتنا أن آثارنا أكبر دليل على حضارتنا التليدة، الآن آثارنا أصبحت دليلا على نفوس مشوهة وأنظمة بليدة.