هل حدث يوما أن دعيت أو تناولت وجبة فى «بوفيه» مفتوح؟
كثير منا ربما حدث له ذلك فى حفل زفاف دعى إليه، أو فى مطعم راقٍ بأحد الفنادق، أو فى رحلة سياحية، أو مؤتمر له علاقة بمهنته، وستلتقى بهذا الصنف بكثرة، خصوصا فى رحلات الحج والعمرة! أيا كان السبب فلا شك أنك لو كنت مررت بتلك التجربة فقد التقيت بصنف من البشر لا يكاد يخلو منه هذا المحفل وهم أبطال مشهد مكرر.
مشهد تلال الطعام التى تعلو الأطباق ولا تستطيع أى معدة تناول معشارها لن يفارق ذهنك بسهولة، خصوصا حين يتكرر أكثر من مرة ومن نفس الشخص، أنه يعلم أنه يستطيع الإتيان بالمزيد، يستطيع أن يضع كمية تكفيه وإذا وجد فى معدته ثغرات تحتمل المزيد فليأتى بعد انتهاء الكمية بهذا المزيد، لكنه أبدا لا يفعل، هو يُصر فى كل مرة على ممارسة نفس التجربة بنفس الكم الهائل الذى لا يحده إلا كونه يخشى سقوط الطعام من جوانب الصحن المسكين والمشكلة أنه فى كل مرة لا ينجح فى إنهاء ما فى ذلك الصحن وحينئذ فلربما خرجت الأكياس التى تعبأ فيها ما لم يجد له مسلكا بعد أن اكتظت المعدة والأمعاء وكاد الطعام أن يطفح عبر الجوف.
ليس شرطا أبدا أن يكون من يفعل ذلك فقراء أو محرومون.. بالعكس وجدت ووجد غيرى ذات الممارسات من بعض ميسورى الحال معتادى ارتياد تلك الأماكن! المسألة فى الحقيقة ليست متعلقة بالمال ولا بالمستوى الاجتماعى، المسألة تتعلق بطبيعة نفسية تتشابك خيوطها لتكون فى النهاية نسيجا يؤدى إلى تلك الظواهر، مزيج من الشعور بعدم الأمان والخوف من المستقبل الغامض، وأيضا ذلك الشعور الخفى بالاضطهاد والإحساس الذى لا يفارق الكثير من الناس بأنهم مغبونون وأنهم دوما عرضة للنصب عليهم أو هضم حقوقهم، كل ذلك وغيره يتشابك ليصنع ذلك النسيج الذى يتدثرون به وهم فى سباقهم المحموم لاقتناص حقهم وتأمين مستقبلهم.
حتى ذلك المستقبل القريب الذى لن يتجاوز بضعة سويعات سيحين بعدها موعد الوجبة القادمة التى ستكون أيضا (بوفيه مفتوح)، كما فى برنامج الحج أو العمرة الذى أعلمته به شركة السياحة، لكن ما الذى يضمن له ألا يجوع فى تلك السويعات القليلة المقبلة؟! يحتاج إذا أن يؤمن نفسه بشبع مبالغ فيه وكأنما سيجتره بعد حين كما تفعل الإبل، أو بتخزينه فى الحقائب والأكياس البلاستيكية الشهيرة حتى لو فقد لذة الاستطعام من كثرة الأصناف التى يكتظ بها فمه؟! وحتى لو صار ما فى الأكياس عجينا يختلط فيه الحلو والمالح ويمتزج فى جنباته الأرز بالجاتوه واللحم بالفواكه؟! مش مهم، كل هذا لا إشكال فيه، المهم أن يقتنص الفرصة وأن يؤمن مستقبله القريب وأن يثبت لنفسه أنه قد أخذ حقه كاملا لم ينتقص منه شىء.
لكن من الظلم والإجحاف أن نقصر اللوم على ذلك الصنف النهم من البشر، فالحقيقة أننا نعيش فى هذه الحياة نفس تلك الحالة، نعيش فى «بوفيه» مفتوح ضخم.
ضخم بضخامة الدنيا وشهواتها وملذاتها والحقيقة الأخرى أن معظمنا بشكل أو بآخر يفعل نفس الممارسات التى ذكرناها لكن بشكل أكثر «شياكة» نفس النهم القلق والاستكثار والاستزادة التى كثيرا ما تكون بغير داعٍ، نفس الشراهة والرغبة فى الاستيلاء والتخزين وملء الأفواه والبطون والجيوب وأيضا نفس فقدان اللذة الناتجة عن حشر الطعام فى الفم حشرا.
أما عن ذلك الفم الممتلئ فاقد اللذة أو تلك الأكياس المكتظة بعجين الأطعمة المخلوطة، فالواقع أنها لن تشكل أى معضلة بالنسبة لمن قرر انتهاج هذا الأسلوب فى الحياة، الفم سرعان ما سيخلو مطالبا بالمزيد.. أى مزيد! فهو فم ابن آدم والقاعدة تقول أن هذا الفم لن يملأه إلا شىء واحد لا يتوفر فى أى بوفيه مفتوحا كان أو مغلقا.. التراب!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة