الأزمة التى اندلعت مؤخرا بين وزير الثقافة ومجموعة من المثقفين والمبدعين والكتاب، ومهما كانت الأسباب والدوافع التى تقف وراءها فإنها كشفت النقاب عن مسألة فى غاية الأهمية بل فى منتهى الخطورة أيضاً، تتمثل فى أن البعض لايزال يتعامل مع وزارة الثقافة بنوع من التعالى ويتصرف تجاهها بأسلوب الهيمنة وفرض الوصاية وكأن منظومة العمل الثقافى مرتعا للجميع، فالجميع يتحركون كل حسب مصالحه الشخصية ومن منظوره الخاص وحسب ما تمليه عليه توجهاته الفكرية أو الإبداعية، فهناك، وللأسف الشديد، من يتعامل مع الشأن الثقافى وفق هذا المنطق الغريب، الأمر الذى يترتب عليه من حين لآخر أن يصبح وزير الثقافة بقدرة قادر داخل مرمى سهام النقد والتجريح الذى يصل فى كثير من الأحيان إلى درجة الخروج عن حدود اللياقة وتجاوز كل التقاليد والأعراف التى تحكم العلاقات الإنسانية بين البشر والتى لم يعد يتحملها أحد.
والحق يقال فإننى لم ألتق من قبل مع الدكتور عبد الواحد النبوى، وزير الثقافة، ولم أتعامل معه سواء من قريب أو بعيد، ولكننى حينما أتناول أزمته الأخيرة مع المثقفين فإننى أرصد حالة من التدهور فى علاقات الود والاحترام التى يجب أن تسود بين أهل الفكر والإبداع، فبمجرد أن قام بممارسة مهامه كوزير للثقافة قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن وكأنه قد ارتكب معصية، فوجدنا كل هذا الهجوم وبهذا الكم الهائل من التهم سريعة التجهيز وفى مقدمتها بالطبع الاتهام بالتوجهات الإخوانية.. فهل أعطينا الرجل فرصته ليقدم لنا نفسه ويطرح أمامنا فكره حتى وإن لم نكن على قناعة تامة بقدرته على تحقيق أى إنجاز، على الرغم أنه قام بالفعل بالكثير من الإنجازات وإن كانت قد جاءت بطيئة إلا أنه حقق تحركاً ملموساً فى مواجهة الإرهاب بالإبداع، وخير مثال على ذلك يكمن فى بروتوكول التعاون الذى وقعه مع الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف المستنير، للتصدى معاً للإرهاب الفكرى الذى يمارسه أصحاب الآراء الظلامية الذين يريدون إعادتنا إلى عصور الجهل والظلام والتخلف.
كما أتوقف هنا أمام مسألة فى غاية الأهمية وهى أن ما يحدث الآن من خلافات بين الوزير وبعض المثقفين سيخرج منها الجميع وهم خاسرون، فلن يربح أحد فى خلاف قائم على أسباب شخصية حتى وإن كانت فى ظاهرها تبدو ذات صفة عامة، فإن لم تكن تلك الخسارة واضحة بشكل ملموس فإن الخسارة المعنوية ستكون أشد فداحة وأكثر ألمًا، فلمصلحة من هذا السجال الذى لا يتوقف صباح مساء بين الوزير من جهة وبعض المثقفين من جهة أخرى عبر وسائل الإعلام بمحتلف أنواعها وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعى التى جعلت من الأزمة ما يشبه وصلة «الردح» حيث نقرأ ونسمع كلاما لا يجوز بأى حال من الأحوال أن نسمعه من النخبة وأهل الفكر والإبداع الذين يشار إليهم بالبنان ويتعامل معهم الناس باعتبارهم قادة الفكر والرأى فى المجتمع؟
لقد كنا إلى وقت قريب نفخر بما تزخر به مصر من نخبة ورموز ثقافية فى شتى مجالات الإبداع، وهو ما يجعلنى أشعر بحزن شديد الآن لما آل إليه حال الثقافة والمثقفين فى مصر، وهو ما يدفعنى إلى أن أكتب منتقدا ما يحدث على الساحة الثقافية وذلك من منطلق غيرتى على وزارة الثقافة التى تمثل كياناً كبيراً وليست مجرد جدران وموظفين لأنها تجسيد حى لضمير أمة وانعكاس صادق لوجدان شعب، نعم إن وزارة الثقافة هى المظلة التى تضم قصور الثقافة المنتشرة فى جميع ربوع مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهى السينما والمسرح والفنون التشكيلية والفنون الشعبية والموسيقى الرفيعة والأوبرا والفنون التراثية والغناء العربى الأصيل، وكلها عناصر إبداعية تنصهر فى بوتقة واحدة لتشكل فى نهاية الأمر ملامح حضارة كانت ولاتزال وستظل هى حائط الصد الأول فى تلك الهجمة التى نتعرض لها خاصة فى أجواء حروب الجيل الثالث الإعلامية التى تحيط بنا من كل جانب والتى لن نتمكن من تحقيق النصر فيها بدون هذا الرصيد الكبير من الثقافة والإبداع.
إننى على ثقة تامة بأن الدكتور أحمد مجاهد الذى كان قرار إلغاء انتدابه لرئاسة هيئة الكتاب سببا فى تلك الأزمة التى لاتزال تشغل الحركة الثقافية، لا يرضيه- كمثقف- أن تظل هذه المشكلة تتفاقم وتصل إلى هذا النحو الذى يدعو إلى الحزن، فالدكتور أحمد مجاهد مثقف له باع طويل فى مجال الإبداع الفكرى، يعى جيدًا أن المثقف الحقيقى هو الذى يشكل جزءا مهما من حركة التطور التى يشهدها المجتمع، كما أنه، وبشهادة الجميع، بمثابة قامة كبيرة فى العمل العام، حيث إن إنجازاته فى هيئة الكتاب لا يمكن إغفالها بأى شكل من الأشكال، كما أنه لا يمكن أيضا تجاهل ما حققه من نجاحات حينما تولى عدة مواقع ثقافية أهمها على الإطلاق رئاسته لهيئة قصور الثقافة التى أحدث فيها طفرة هائلة ستظل شاهدة على حقيقة مؤكدة هى أنه كلما خلصت النوايا فإننا قادرون على صنع المعجزات.
واللافت للنظر أن ظهور بعض المثقفين فى المشهد الراهن يضع على عاتقهم جزءا كبيرا فى الأزمة، حيث يؤججون الصراعات ويسكبون البنزين على النار المشتعلة، وللأسف الشديد هم معروفون بالاسم كما لا يخفى على أحد توجهاتهم المريبة وأهدافهم غير النبيلة التى يسعون لتحقيقها، حيث يحترفون اختلاق الأزمات ويجيدون فن صناعة الكوارث التى تأتى دائما بنتائج لا تسر أحداً على الإطلاق. أما الشىء المستفز حقا فيما يجرى الآن فى الصراع الذى يدور بين الوزير والمثقفين والذى يدعو إلى الرثاء حقا فى نفس الوقت، فهو: كيف يسمح هذا المثقف أو ذاك لنفسه أن يهدد بالتظاهر والاعتصام فى توقيت لم يعد المجتمع يتقبل مثل هذه المفردات التى لم نجن من ورائها سوى المزيد من التدهور خلال سنوات ما بعد ثورة 25 يناير التى أفرزت هذه الاعتصامات والإضرابات وما شابه ذلك من تصرفات غير مسؤولة أضرت بالاقتصاد القومى بل ضربت خطط التنمية فى مقتل وأصابت الحياة العامة بشلل تام ما زلنا نعانى من تبعاته؟ ليس هذا وحسب بل إن تلك الدعوات للتظاهر والاعتصام من أجل إقالة وزير الثقافة تأتى فى توقيت نرى فيه الدولة وقد أعلنت وبشكل قاطع بأنه لن يتم السماح لعودة مثل تلك التصرفات بعد أن بدأت عجلة الإنتاج فى الدوران حينما قرر رئيس الدولة الرئيس عبد الفتاح السيسى أن نخطو إلى الأمام بخطى ثابته لا تعرف الوقفات الاحتجاجية ولا تسمح بسماع الأصوات المطالبة بالاعتصام مرة أخرى.
إننى أرى ضرورة أن يلتقى الوزير بالمثقفين ويناقشوا مشاكلهم بشفافية ويتقبل كل جانب انتقاد الجانب الآخر بصدر رحب، فالحل فى رأيى أن يمنحه المثقفون الفرصة كاملة ليثبت للجميع أنه بالفعل جدير بأن يجلس على كرسى الوزارة الذى يرى البعض أنه ليس على مقاسه، أما إذا أخفق فى هذا الأمر فعلينا جميعا فى هذه الحالة أن نتصدى له، بل نطالبه بالرحيل مادام لم يتمكن من إقناع الجميع بأنه جدير بهذا المنصب رفيع المستوى ومادام يفتقر لأبسط أساسيات العمل العام، وهو احتواء الجميع وحل الأزمات قبل أن تتفاقم.. ولكن سياسة التخبط والتربص التى أراها الآن فإنها لن تعود علينا بأى فائدة، بل إننى على يقين بأن الجميع سيخرجون وهم خاسرون.