الخطاب بشكل عام فى أى مجتمع هو مجمل القول والفعل، وهو الممارسة الاجتماعية، ويقوم الخطاب الإعلامى بنقل هذه الممارسة الاجتماعية إلى الجمهور من خلال وسائل الإعلام التى لها تحيزاتها المعلنة وغير المعلنة، لذلك من الضرورى تحليل الخطاب الإعلامى، لنتعرف على مدى دقته فى نقل الواقع، وما استراتيجياته، وما الذى يخفيه أو يبرزه، ولمصلحة من يعمل أو يوظف هذا الخطاب.
ولا يوجد خطاب إعلامى واحد، إنما هناك خطابات إعلامية متصارعة، لكن دائمًا يوجد خطاب مهيمن ومنتشر بغض النظر عن دقته فى نقل الممارسات الاجتماعية، وهناك محاولات لتحليل الخطاب الإعلامى المصرى قامت بها بعض رسائل الماجستير والدكتوراة، علاوة على بعض الأبحاث فى كليات وأقسام الإعلام، لكن للأسف الشديد فإن أغلب تلك المحاولات خاطئة، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمناهج والأساليب العلمية المستخدمة فى مدارس تحليل الخطاب فى العالم. تعتمد أغلب تلك المحاولات على أربعة أو خمسة مناهج وأدوات ظهرت قبل حوالى أربعين عامًا، وفى بدايات تحليل اللغة اجتماعيًا وإعلاميًا، وقد تطورت كل تلك المناهج والأدوات، لكننا فى مصر نقف عند تحليل الأطروحات ومسار البرهنة والحجج والبراهين والحقول الدلالية للخطاب الإعلامى، وكرر الباحثون المصريون هذه المناهج والأدوات الأربع بلا فهم صحيح لماهية الخطاب، وكيف يتشكل، وعلاقته بالهيمنة الناعمة فى المجتمع وتزييف وعى الجمهور، لذلك حوّل بعض الباحثين تحليل الخطاب إلى إجراءات كمية تحصى التكرارات، وتضعها فى جداول لا معنى لها سوى محاولة تقليد تحليل المضمون الكمى! بالرغم من أن مدارس تحليل الخطاب تتفق على أنه تحليل كيفى وليس كميًا، ولا يُعنى كثيرًا بالعينات الكبيرة التى تتكرر فيها المعانى والصور.
إن تحليل الخطاب لا يهتم بالتكرار أو التماثل، إنما يركز على الندرة، ندرة المعانى والصور، ويتوقف طويلًا عند التحولات فى الخطاب الإعلامى، فمثلًا لا يهمنا كثيرًا حساب تكرارات موقف إدارة أوباما من 30 يونيو أو تعاطفها مع الاخوان، إنما يهمنا أكثر التحول فى الموقف الأمريكى الذى عبر عنه جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكى، فى زيارته الأخيرة للقاهرة عندما وصف جماعة الإخوان بأنها تنظيم إرهابى تخريبى.. لا يهمنا فى تحليل الخطاب حساب كم مرة ظهر، أو كتب شعار «الجيش والشعب إيد واحدة»، إنما يهمنا أكثر كيف تبدل هذا الشعار إلى «يسقط حكم العسكر»، ثم كيف ظهر شعار «يسقط حكم المرشد»، وكيف ولماذا عاد شعار «الجيش والشرطة إيد واحدة»؟.. هذه الأمثلة البسيطة توضح أن تحولات الخطاب أهم من استمراره فى تكرار معانيه وصوره.
ويركز تحليل الخطاب أيضًا على الخطاب المهيمن، وكيف يصنع ويداع عن تلك الهيمنة، ولمصلحة من يعمل، لذلك هناك ضرورة لفهم آليات إنتاج وتمويل وتداول الخطاب المهيمن، وهل يعكس التحيز والتمييز الثقافى أو الاجتماعى السائد فى المجتمع، أم أنه ينتج أشكالًا جديدة من التمييز.. فى هذا الإطار لا بد من تحليل الخطابات المهمشة أو المستبعدة، وهل لها تأثير وجمهور؟، ومدى فاعليتها الاجتماعية، وعلاقتها بالديمقراطية وحرية الرأى والتعبير فى المجتمع؟ أكثر من ذلك، لا بد لتحليل الخطاب من دراسة علاقة الصراع والتداخل بين الخطابات المختلفة فى المجتمع، فخطاب السلطة المهيمن قد يستعير ويعيد توظيف مفاهيم وصورًا وأفكارًا لدى خطاب المعارضة، أو لدى بعض الخطابات المهمشة، والعكس صحيح ما يعنى أن هناك تداخلًا خطابيًا من المفيد دراسته.
للأسف الشديد كل هذه الأسس المنهجية غائبة عن معظم دراسات تحليل الخطاب الإعلامى فى مصر، والتى تقف معرفيًا ونظريًا عند ثمانينيات القرن الماضى، فلم تطور من أدواتها أو مناهجها، وما تزال عاجزة عن نقل وتقليد، ومن ثم تمصير الحديث فى مجال تحليل الخطاب، والذى وصل إلى مراحل متطورة للغاية فى تحليل النصوص والخطابات المكتوبة والمصورة، وباستخدام برامج كمبيوتر تساعد الباحث فى رصد تحولات الخطاب ومفاهيمه الأساسية، وعلاقته بالنظام السياسى والإعلامى.